الاثنين، 6 أغسطس 2012

صفحات من تاريخ البوردين..أقدم سفينة بخارية بمجداف فى العالم

::::روان الاخبــار:::

صفحات من تاريخ البوردين..أقدم سفينة بخارية بمجداف فى العالم
المصدر:الخرطوم: الصحافة ... بقلم: بروفيسور يوسف حسن فضل
الاثنين:Aug 6, 2012
تشهد العاصمة القومية افتتاح متحف جديد فى مضمونه وشكله وطريقة عرضه، والذى يعرض واحداً من الآثار التاريخية المهة فى السودان. ارث يتمتع بقيم رمزية تعليمية وسياسية وتقنية وفنية وقومية خاصة، اذ يختزل ذاكرة البلاد عبر ثلاث حقب تاريخية هى الحكم التركي المصري «1821ــ1885» ودولة المهدية «1885ــ 1898» والحكم الانجليزي المصري «1898ــ1956». ويتضمن هذا الارث من القيم الفنية والتقنية ما يجعله قبلة طلابنا للاستفادة منه، ويتضمن قيماً تاريخية، اذ يعتبر الاقدم من نوعه. وانا على ثقة أن هذا المتحف يصبح بالادارة الرشيدة للمؤسسات المعنية بالتراث والثقافة مؤسسة سياحية واقتصادية مهمة تسهم فى رفد الاقتصاد القومي.
إن تقدم الدول وتطور الشعوب يقاسان من خلال اهتمامها المسؤول بماضيها وارثها الثقافي والفنى. وفى ضوء هذا الاهتمام يجىء جهد الهيئة القومية للآثار والمتاحف ووزارة الثقافة والسياحة الولائية بالبوردين. وفي ما يلى أؤرخ لها فى إيجاز.
بعد غزو محمد علي باشا، والى مصر العثمانية، سودان وادي النيل في عام 1821م وقيام الحكم التركي ــ المصري الذى امتد حكمه حتى عام 1885م، زاد استعمال السفن الشراعية والسفن البخارية، وصار نهر النيل أداة وصل أساسية، بين مصر والسودان، وبين الخرطوم وحواضر مديريات بربر وسنار وفشودة.
وكان أول إبحار للسفن البخارية على نهر النيل بين الإسكندرية والقاهرة في نحو عام 1828م، ولا يعرف تاريخ ظهور تلك البواخر في سودان وادي النيل بالتحديد، ولكن يروى أن الأمير محمد عبد الحليم بن محمد علي باشا استخدم باخرة ذات مجداف جانبي في رحلته على النيل الأزرق إلى ود مدني، عام 1858م.
وفي عهد الوالي محمد سعيد «1854ــ1863» أبحرت باخرتان من حوض بولاق للسفن في القاهرة، في اكتوبر 1856م، واستطاعتا بعد أن اجتازتا الشلال الثالث أن تبلغا دنقلا في يناير 1858م، ولكن انخفاض منسوب نهر النيل لم يمكنهما من الإبحار إلى الخرطوم، ومن ثم عادتا إلى مصر بتوجيه من الوالي. وفي آخر ولاية محمد سعيد باشا، وفي محاولة ثانية تمكنت أربع سفن بخارية من اجتياز الجنادل التي تشكل عائقاً للملاحة. وكانت تلك البواخر، تعمل بمجاديف جانبية وتحمل أسماء الفاشر، المسلمية، التوفيقية، ونمرة تسعة، وكان طول كل منها «26» متراً، وقوة محركها أربعين حصاناً.
وفي عام 1869م أرسلت الحكومة ست سفن أخرى لدعم بعثة السير صمويل بيكر، الهادفة لإقامة السيادة المصرية وتمديدها في الأقاليم الاستوائية. وكانت السفن البخارية الست ذات مجاديف جانبية، ولكن ذوات أطوال وأحجام مختلفة، ومن ضمنها تل حوين وطولها 45.720 متراً، وقوة محركها ستون حصاناً، والبوردين، وهي شديدة الشبه بتل حوين، ولكن أصغر حجماً. وكانت باقي السفن من نفس النوع، وسميت بالصافية، المنصورة، شبين وأمبابة. ونقلت ثلاث سفن أخرى «الإسماعيلية، الخديوي ونيانزه»، في شكل قطع على ظهور الإبل عبر الطريق البري.
وكانت البوردين واحدة من السفن التسع التي جلبت لتنفيذ سياسة ولاة مصر لنقل الإمدادات للخرطوم وجنوب السودان، وخلال أربعة عقود من العمل النشط ظلت البوردين تبحر على نهر النيل الرئيسي وفرعيه النيل الأزرق والنيل الأبيض، لنحو أربعة عقود خدمت خلالها بنشاط الإدارة التركية «1869ــ 1885» ودولة المهدية «1855ــ 1898» والحكم الثنائي الإنجليزي المصري «1898ــ 1906» وبعد ذلك ضعف أداؤها.
وفي بريطانيا حيث صنعت كل هذه السفن، كانت سفينة ريتشموند أول باخرة بمجداف تبحر على نهر التيمز «التايمز»، في عام 1914م وكانت تزن 50 طناً، وتبعتها بعد وقت قصير المارقرى التي بلغ طولها 71 قدماً. أما البوردين فقد بنيت عام 1863 لدى حوض الإخوان سامودا لبناء السفن على نهر التيمز، وصنع محركها الرجاج وهو بقوة 40 حصاناً بواسطة جون بن. وبلغ طولها 140 قدماً، وعارضتها 12 قدماً وتبحر بسرعة 10 عقد «خفضت إلى 5 بحلول عام 1884م». ونقلت الباخرة في شكل قطع إلى مصر، حيث جمعت في حوض بولاق للسفن ثم أبحرت للسودان.
وفي سعي متواصل كانت البوردين في فترة خدمتها الأولى تزود المحطات الإدارية على طول نهر النيل من وادي حلفا وصولاً إلى المديرية الاستوائية، حيث كان كل من بيكر وغردون وأمين باشا حكاماً عليها بالتوالي. ففي يوم 31 مارس عام 1874 مثلاً عادت البوردين تحمل كمية من سن الفيل المصادر. وفي الثامن من يونيو من نفس العام أبحر بها غردون باشا إلى فشودة في رحلة تفتيشية. وفي 15 يوليو 1878 أبحر بها روملو جسي، أحد معاوني غردون باشا، إلى جنوب السودان في مهمة حربية. ولعل من أهم إنجازات البوردين في تلك الفترة إنقاذها الدرامي لروملو جسي، هذا إبان رحلة مهلكة في منطقة السد، في الخامس من يناير 1881م.
وأدى اندلاع ثورة الإمام المهدي على العهد التركي المصري وما حققته من انتصارات في أقاليم السودان المختلفة واستيلاؤها على عدد من بواخر الأسطول النهري وتتويج ذلك بحصار الخرطوم «مارس 1884ــ يناير1885»، إلى جعل الجنرال غردون باشا، الحاكم العام، في حالة عزلة تامة ويأس من وصول الإمدادات التي وعدت بها الحكومة البريطانية.
ونتيجة لهذه التحديات حول غردون سفينة البوردين ونظيراتها من السفن التي أسلفنا ذكرها إلى سفن حربية شديدة الكفاءة، محمية بألواح من الحديد ودروع من العوارض الخشبية العمودية، وزودها بمدافع وأسلحة نارية. واستمرت البوردين في نشاطها على النيلين الأزرق والأبيض، ورغم إصابتها بنيران الأنصار إلا أن صيانتها كانت تتم بسرعة.
وفي أواخر أيام الحصار « سبتمبر 1884م» بعث غردون أربع سفن هي المنصورة، تل حوين، الصافية والتوفيقية، تحت قيادة نصحي باشا إلى المتمة لتكون في انتظار حملة الإنقاذ البريطانية المتوقعة لإنقاذ الخرطوم «ولعله من المفيد أن نذكر أن تلك البعثة نقلت ستة مجلدات من مذكرات غردون». وفي الخامس عشر من ديسمبر 1884 أصدر غردون الأمر بأن تنضم البوردين للسفن الأربع.
وعند وصول القوات البريطانية انطلق رئيسها شارلز ويلسون على متن البوردين بمصاحبة تل حوين، وكانتا تحت قيادة محمد خشم الموس بك، متجهاً نحو المدينة المحاصرة في رحلة استكشافية وللاتصال بالجنرال غردون. فلما وصلت البوردين ورفيقتها جزيرة توتى في يوم 28 يناير 1885م، وعلى مرأى من قصر الجنرال غردون «القصر الجمهوري الآن»، كان أنصار الإمام المهدي قد سيطروا على الخرطوم قبل يومين.
فلما تأكد ويلسون من سقوط الخرطوم، غيرت الباخرتان اتجاههما نحو المتمة هروباً من نيران مدفعية جيش المهدية، غير أنهما اصطدمتا بصخور عند شلال السبلوقة، تل حوين أولاً، والبوردين ثانياً عند جزيرة مرنات، فهجرتهما حملة الإنقاذ. وفي وقت لاحق استولى الأنصار عليهما وضموهما إلى اسطول المهدية الحربي، كما سيطروا على سبع سفن أخرى.
واستخدمت البوردين في نقل الجنود والمواد وأحياناً السجناء، ففي 11 يونيو 1888م أبحر الأمير عمر صالح من أم درمان إلى أعالي النيل ليسيطر على الحاميات التركية المصرية الموجودة في المديرية الاستوائية. وكان أسطوله مكوناً من البوردين ومحمد علي التي لم تكن قوة محركها كافية لمواجهة تيار النيل الأبيض، ومن ثم قطرت إلى «البوردين». ومن العمليات التي شاركت فيها البوردين في نفس العام العملية غير الناجحة لسحق أمين باشا في المديرية الاستوائية. ومن الطرائف التي يحكيها يوسف ميخائيل «في مذكراته عن دولة المهدية»، أن حملة عسكرية أبحرت في صيف 1885 إلى سنار المحاصرة، تحمل جنوداً على مقطورة، ولكن المقطورة انفصلت عن الباخرة منحرفة مع تيار النهر نحو أم درمان، فلما رأى بعض الأنصار من البقارة ذلك المنظر وهم على الشاطئ هتفوا في تعجب «وحاة الله وحاة الرسول الكبك سافر خلا الوابور» « أي أن الجنود رفضوا السفر مع الباخرة».
وذكر رودولف سلاطين، مدير دارفور، بعد هروبه من أسر الخليفة عبد الله عام 1895، أنه توجد سبع سفن في حالة مُرْضِية من الصيانة، إلا أن مُحركاتها قد أصابها الوهن، وتدنت سرعتها إلى نصف ما كانت عليه في البدء. وأضاف أن البوردين كانت في مستودع للصيانة، وقد أسس هذا المستودع الخليفة عبد الله لترميم السفن الشراعية والبواخر تحت إشراف عدد من الفنيين والحرفيين المصريين والنوبيين.
وفي مُستهل معركة كرري «2 سبتمبر 1898م» استولى جيش كتشنر على البوردين واستخدمها لوقت قصير في حمل قوات الجيش الغازي، ولاحقاً في حمل مواد البناء بين أم درمان و الخرطوم، كما عملت ضمن السفن الأخرى في نقل حطب الوقود من محطات تجميعه على النيل الأبيض.
وفي عام 1906 أوقفت البوردين عن الخدمة بسبب التكلفة العالية للكمية الهائلة التى تستهلكه من حطب الوقود، وظلت على شاطئ النيل الأزرق، تحت رعاية إدارة النقل النهري، إلا من بعض المهام المتباعدة مثل نقل الأخشاب وحمل المساجين بين مدينة جوبا ومنطقة الرجاف، وتحزين البترول إبان الحرب العالمية الثانية، كما روى لي اللواء عمر النور مدير المتحف الحربي. وأفادني أيضاً بأن الإدارة البريطانية جعلت منها معتقلاً للطلبة الحربيين الذين خرجوا في مظاهرة إبان ثورة 1924م، ومن بين هؤلاء الطلبة محمد عبد العظيم خليفة، صالح حسين خليفة، عبد الله مبروك خليل، مصطفى بابكر الشفيع، حسن أحمد يس، عوض أحمد سالم، محمد فضل المولى الشناوي، الطاهر اسحاق شداد، أبو بكر أحمد بابكر، الشريف منصور سرور، على محمد الأرناؤوطي، جمعة مرسال الأرباب، محمد العوام، رمضان عبد الخير، عوض إبراهيم أبو رفاس، مزمل علي دينار، علي أبو سن. وقد غنت لهم النساء إبان فترة حبسهم:
يا حليل الطير الرحل
والتلامذة السكنو البحر
وفي عام 1930م تم ترميم البوردين وإعادتها إلى حالتها التي كانت عليها عند حصار الخرطوم. وفي اليوم الثالث والعشرين من يناير 1935 الموافق للذكرى الخمسين لمقتل الجنرال غردون، ظهرت البوردين في ثوب قشيب وحلة زاهية، وعرضت قبالة قصر الحاكم العام. وبعد ذلك صارت وجهة سياحية جاذبة للسواح خاصة في فصل الشتاء. ويبدو أنها بذلك الشكل الجميل والصورة الزاهية قد لفتت الأنظار، فذكرها الاستاذ محمد أمين حسين في معرض قصيدة له، غناها الفنان حسن عطية إذ تقول:
«جنى البوردن حلي فوتي
سكنوكم وين جزاير توتي
وجنى البوردين هي معدية «اوعَبَّارة» شمبات وهي باخرة صغيرة، بمثابة الطفل أو الابن بالنسبة للبوردين وهي ترسو أمام قصر الحاكم العام في عزة ومنعة.
وقد رأيت لوحتين فنيتين جميلتين للبوردين، أولاهما رسم احتفائي ملون يؤرخ لها، وهي راسية علي شاطئ النيل الأزرق في الخرطوم إبان العهد التركي المصري. وتحفظ هذه اللوحة في المتحف الحربي بالخرطوم. والثانية صورة معبرة للبوردين وتل حوين وهما على مشارف الخرطوم، قريبتان من ملتقى النيلين، عندما وفدتا لإنقاذ الجنرال غردون من الحصار. وقد بيعت هذه اللوحة في مزاد علني بواسطة معرض كرستيز البريطاني في لندن بألف وثلاثمئة وثمانين جنيها إسترلينياً عام 2001م.
وعبر السنوات الأخيرة من عمر البوردين البالغ مائة وأربعين عاماً، اصاب الباخرة الوهُن، ولم تعد قابلة للترميم، خاصة بعد أن تم تجريدها من محركها ومراجلها، وظل هيكلها الخارجي يقبع في ورشة البواخر التابع لهيئة النقل النهري في الخرطوم بحري. وأصبحت بمثابة تحفة أثرية تجدر بالعناية المتحفية.
كان أول من فكر في العناية بالبوردين «ضمن سفن أخرى » الهيئة القومية للآثار والمتاحف، ولكن إمكاناتها المالية قعدت بها. وجاء الخلاص على يد السيد الدكتور عبد الرحمن الخضر والي ولاية الخرطوم الذي عهد للجنة عليا برئاسة السيد وزير الثقافة والسياحة الدكتور محمد عوض البارودي، وممثلين للهيئة القومية للآثار والمتاحف، وإدارة النقل النهري وإدارة السياحة والإعلام، ودعمت اللجنة نشاطها بخبراء من داخل السودان وخارجه لتنفذ ما اتفق عليه من إسعاف عاجل للباخرة. واتفق على نقلها لموضع استراتيجي يكون نواةً لمتحف نهري يعنى بمخلفات الملاحة وهي كُثر. وتم نقل الباخرة المهترئة إلى موضع خلاب على شاطئ النيل الشمالي، يأتي بعد ملتقى النيلين مباشرة، قبالة الطابية، قلعة الدفاع التي شيدها الخليفة عبد الله في مواجهة الغزو الإنجليزي المصري، كما تطل على جزيرة توتي. وقد بُدأ في إعداد الباخرة كتحفة متحفية في همة ليفتتح معرضها لسائر الجمهور، ولا شك أن البوردين جديرة بهذا الاهتمام المهيب كما أبنت فى أول هذا المقال. ولأنها تمثل إرثاً صناعياً مهماً، فهي أقدم سفينة بخارية تعمل بمجداف في العالم، كما توضح جانباً من بداية «التحديث» في تاريخ السودان، وستكون البوردين موضع جذب للدارسين والسواح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق