الإعلام آخر من يعلم بقلم :نسيم الصمادي - روان للإنتاج الإعلامي والفني
من محاضرة سابقة حول "المسؤولية المجتمعية للإعلام"
معروفٌ
عني في دائرةِ الأصدقاءِ والعملاءِ أنني مفرِطٌ في التفاؤلِ. فقد منعني
تفاؤلي الدائم من الاستثمارِ في "البورصات" المحلية والعالمية، فنفذتُ
بجلدي، وصارَ بإمكاني أن أتحدثَ من خارجِ دائرةِ الأزمةِ. وها أنا أعتمر
قبعة "إدوارد دي بونو" وأتحدثُ بلغةٍ متشائمةٍ. فلا ضير في أن يعلو صوت
واحد متشائم حتى وإن بدا نشازًا؟ فنحن نعيش في عالم "ناشز"! ولذا فأنتم
تعرفون سبب هذا التشاؤم؛ إنه الأزمات المتواترة التي تجتاحُ العالمَ، والتي
من الصعبِ القولُ بأنَّ وراءَها إعلامًا ومؤسساتٍ وقراراتٍ مسؤولةً.
لا أرى في عالمنا إعلامًا واحدًا؛ بل ثلاثة إعلامات:
-
الإعلامُ الأول في دولِ العالمِ الأولِ – أو في المجتمعِ الرأسمالي –
وهو إعلامٌ اقتصادي. فسواءٌ تحدثَ عن: كتابِ التاريخِ الذي أهداه "شافيز"
لـ"أوباما"، أو عن رفعِ الحصارِ الأمريكي عن كوبا، أو عن خُـلعِ السيدة
ِ"روبين" لزوجها الممثل "مل جبسون"، فهو دائمًا يبحثُ بين السطورِ عن
"الأرقامِ." فليسَ مهمًا لماذا وقعَ الطلاقُ! المهم هو: كم سيدفعُ السيدُ
"جبسون"، للسيدةِ "جبسون" بعدما وقع الطلاق لأسباب اقتصادية بعد زواجٍ دام
28 عامًا.
-
الإعلامُ الثاني هو إعلام الدولة الذي لا يهم القائمين عليه سوى إرضاءِ
السياسيين المستعدين للتضحيةِ بالإعلامِ والاقتصادِ وبالمجتمعِ ككلِّ
وأحيانًا بالعالمِ كلِّهِ؛ في سبيلِ أن لا يفلتَ الإعلامُ والزمامُ من بين
أيديهِم.
-
الإعلام الثالث هو إعلام العالمِ الثالثِ أو إعلام الفقر، وهو إعلامٌ
بلا هويةٍ. فهو تائهٌ بين رسالتِهِ الإعلاميةِ، وهويتِهِ الوطنيةِ،
ومشكلاتِهِ الاقتصاديةِ، والتزاماتِهِ الأمنيةِ، والمصالحِ الفرديةِ
والشخصيةِ؛ إذ تعلو وتهبطُ نغماتُهُ، تبعًا لمزاجِ الملحنِ الذي يكتبُ
النوتةَ الموسيقيةَ، أو القائدِ الذي يمسكُ بعصا "الماريشاليةِ".
يُفترضُ بالإعلامِ الثالثِ أن يلعبَ دورًا أكبرَ تجاه المجتمعِ الذي يحتاج هذا الدور، ولكنه لا يستطيعُ، وذلكَ لأسباب كثيرة منها:
- غيابُ الديموقراطيةِ والمؤسساتيةِ، فليسَ هناك من يحميهِ، وهو عاجزٌ عن حمايةِ نفسِهِ.
-
عجزُه عن الاقترابِ من الهمومِ الحقيقيةِ لمجتمعه، لأسبابٍ تاريخيةٍ
وثقافيةٍ، فهو مشتتٌ بين التراثِ والحداثةِ، وبينَ الماضي والمستقبلِ،
وبينَ القبائليةِ والليبراليةِ.
-
كما أن تحولَ رجالِ الإعلامِ إلى رجالِ أعمال وإعلانٍ، يقابلهُ تحولٌ
مضادٌّ لرجالِ أعمالٍ – ليس لهم علاقةٌ بالإعلامِ – إلى رجالِ إعلانٍ
ورجالِ إعلامٍ. فهو إمَّا إعلامُ "شرفٍ" أو إعلامُ "ترفٍ". إمَّا إعلامُ
"تكريمٍ" أو إعلامُ "تعتيمٍ": إعلامُ التكريمِ هو إعلامُ "التطبيلِ"
وإعلامُ التعتيمِ هو إعلامُ "التضليلِ". وأحيانًا يختلطُ الحابلُ بالنابلِ،
فلا يُعرف المسؤول من السائلِ، لأن الأسئلة التي يطرحها الإعلاميون كلها
إجبارية وإجاباتها محددة سلفًا.
"أوبرا" و"هيرمان": التزويرُ من أجلِ المالِ
أما
الإعلام العالمي فهو ليس أفضل حالاً، فقد استضافت "أوبرا" قبل تقاعدها
زوجين أمريكيين: حيث جاءَ الزوجُ واسمُهُ "هيرمان روزبلانت" وزوجتُهُ
"روما" ليرويا قصةَ حبِّهما الأبدي. وصفت "أوبرا" القصة – التي كانت على
وشكِ الصدورِ في كتابٍ – بأنها أروعُ قصصِ التاريخِ! ثم عادت وسحبت
تصريحَهَا بعدما سمعت أنَّ "دارَ بيركلي للنشرِ" تراجعتْ عن نشرِ الروايةِ
الزائفةِ التي من المفترضِ أنها تروي قصةً حقيقيةً.
ادَّعى
"هيرمان" أنَّه كان سجينًا في معتقلاتِ النازيةِ وهو في الثانيةِ عشرةَ.
وكانت هناك فتاةٌ جميلةٌ تقتربُ كلَّ يومٍ من أسوارِ المعتقلِ وتقذفُ لهُ
بتفاحةٍ يسدُّ بها رمقَهُ (طبعًا: أيُّ فتاة نراها من بعيدٍ سنراها جميلة،
فما بالكم بفتاةٍ نراها من وراءِ الأسوارِ!). وبعدما هاجرَ "هيرمان" إلى
أمريكا واستقرَّ في نيويورك، ذهبَ إلى موعدٍ غرامي رتبتهُ لهُ وكالةُ
زواجٍ، وإذا بالعروسِ المرشحةِ لمقابلتهِ هي نفسُ الفتاةِ التي كانت
تناولُهُ التفاحَ من خلفِ الأسوارِ!
كادت
كذبةُ "هيرمان" تنطلي على دورِ النشرِ وخبراءِ الإعلامِ. فقد أدخلت
"أوبرا" كتابَ "هيرمان" المزيفَ وعنوانُهُ "ملاكٌ على الأسوارِ" ضمنَ نادي
كتبها الشهيرِ؛ حيثُ رأت في كذبةِ الحبِ الكبرى فرصةً لحصدِ الملايين.
وبدأت دارُ "بيركلي" في طبعِ الكتابِ، لتحولَ التاريخَ والعواطفَ والحبَّ
إلى "بيزنس." وأبدى الإعلامُ الأمريكي استعدادَهَ لتصديقِ الكذبةٍ بسبب
حالة الملل واليأسِ التي يعيشُها. فمن الواضحِ بعدَ سقوطِ رموزِ الحضارةِ
الغربيةِ – بدءًا من أسوارِ المالِ في "وول ستريت،" إلى أسوارِ الغرامِ –
أنَّ طبقةّ "الإنتلجنسيا" ورموزَ المالِ والأعمالِ ودورَ النشرِ، يصنعون
الأساطيرَ، ثم يصدقونها!
ولم
ينكشفُ الغطاءُ عن أسطورةِ الحبِّ الزائفِ إلا بسبب أقارب العاشقِ المزيفِ
"هيرمان" الذين أعلنوا أنه كاذبٌ! فتحركَ المؤرخون ليعترفوا بأن زمنَ
المعجزاتِ قد ولى، وأنَّ روايتَهُ كاذبةٌ. ثم اعترفَ الزوجان الكاذبان
بأنَّ الحبَّ عبرَ الأسوارِ كانَ خيالاً محضًا، وفرصةً لمقايضةِ العواطفِ
والذكرياتِ بالدولاراتِ.
هناكَ
خيطٌ رفيعٌ يربطُ بينَ الاقتصادِ والفلسفةِ والأخلاقِ من جهة، وبين
"البيزنس" والسياسة من جهة أخرى. فمن الملاحظِ أنَّ صناعةَ النشرِ
الأمريكيةِ تحفلُ بكتبِ المؤلفين اليهودِ أكثر من غيرها؛ والسببُ هو سيطرةُ
رأسِ المالِ على وسائلِ الإعلامِ ووكالاتِ النشرِ والتوزيعِ. فسواءٌ كانَ
الكتابُ علميًا أو خياليًا أو أكاديميًا، فإنهُ يحظى بنصيبِ الأسدِ من
الدعايةِ والترويجِ؛ فيُقبلُ على تقريظهِ خبراءُ العلاقاتِ العامةِ
والنقادُ، فيقبلُ على شرائِهِ العبادُ؛ فالخلاصة أنه ليس هناك إعلامٌ
أخلاقي ومحايدٌ.
قبل
الأزمة الاقتصادية العالمية خرج خبير اقتصادي اسمُهُ "بيتر شيف" بكتاب
بعنوان: "دليل الانهيار"، بعدما قضى ثلاثةَ أعوامٍ وهو يحذرُ من الكارثةِ
الاقتصاديةِ، ولم ينصتْ أحدٌ، لأن الرجل محلل مالي وليس إعلاميًا. وعندما
وقعت الواقعة، هجمَ عليه الإعلاميون وعاتبوهَ متسائلين: "لماذا لم
تخبرنا؟". فتسعةُ آلافِ محررٍ ومراسلٍ اقتصادي في أمريكا، لم ينتبهوا إلى
الكارثةِ الاقتصاديةِ. أو أنهم انتبهوا.. ولكن منعتهمُ مؤسساتُهم من البوحِ
بالحقيقةِ. فهناك موانعُ وأسوارٌ وفلاترُ لا متناهيةٌ تعملُ على حجبِ
الحقائقِ.
نعم،
يمكننا حقًا تشبيهُ نصائحِ الإعلاميين باسترجاعِ الصندوقِ الأسودِ بعدَ
سقوطِ الطائرةِ. يعكفُ خبراءُ الطيرانِ على تحليلِ بياناتِ الصندوقِ بعدَ
السقوطِ، لعلهم يعرفون السببَ ويمنعون سقوطَ المزيدِ من الطائراتِ، إلا أن
طائراتٍ أخرى تسقطُ، فيتمُ التقاطُ المزيدِ من الصناديقِ السوداء، وكتابةِ
تقاريرَ جديدةٍ، والأزماتُ تتوالى!
هذا
هو حالُ الإعلام. فبعد أن كثر الضحايا، وأفلست دولٌ، وتفاقمت أعدادُ
العاطلين عن العملِ، خرجَ الصحفيون يحللون الأزمةَ، مثلَ كلبِ "شرلوك
هولمز" في روايةِ "الوهجِ الفضي". وقعت الجريمةُ في الليلِ والكلبُ لم
ينبح. فتحوَّلَ مجرى التحقيقِ من: من المجرمُ؟ إلى: لماذا لم ينبحُ الكلبُ؟
كلبُ
"الإعلامِ الاقتصادي" لم ينبَح هذهِ المرةِ.. ولن ينبَحَ. وهذا يذكِّرني
بنكتةٍ سياسيةٍ عراقية تقول: في أثناءَ الحربِ العراقيةِ الإيرانيةِ، بدأت
الكلابُ الإيرانيةُ تهربُ إلى الغربِ طالبةً اللجوءَ إلى العراقِ، والكلابُ
العراقيةُ تتوجهُ شرقًا طالبةً اللجوءَ إلى إيرانَ. وعلى الحدودِ تقابلَ
كلبان ودارَ بينهما حوارٌ أعربَ فيه كلٌّ منهما عن استغرابِهِ من هروبِ
الكلبِ الآخرِ. قالَ الكلبُ الإيراني: "أنا هاربٌ من طهرانَ بسبب العذابِ
وطلبًا للأكلِ والشرابِ، وقد سمعتُ أن بغدادَ مليئةٌ باللحمِ والأرز
والسمكِ." فردَّ الكلبُ العراقي مبتسمًا: "صحيح عيني، عندنا في العراق أكل
وفلوس، لكننا لا نستطيع أن ننبح".
في
أوقات الأزمات تصمت معظمُ الحكومات أو ما نسميه السلطةَ التنفيذيةَ، غاضةً
الطرفَ عما يحدثُ، ورافعةً شعارَ الاقتصادِ الحرِ، وتاركةً (اليدَ
الخفيةَ) تلعبُ دورَهَا في تحريكِ عجلةِ الاقتصادِ المندفعةِ إلى الهاويةِ.
ولا تتحركُ السلطاتُ التشريعيةِ في مجالسِ النوابِ والشيوخِ والشعوبِ،
لأنها تعملُ بردودِ الأفعالِ ولا تبادرُ إلى صياغةِ تشريعاتٍ تحمي المجتمعَ
من الاحتكاريين والمضاربين. أما السلطةُ القضائيةُ فليسَ من حقها أن تحققَ
أو تفتحَ أيَّ صندوقٍ أسودَ قبلَ وقوعِ الجريمةِ، وهي الآن تحققُ مع
الكلبِ الذي لم ينبَح، وتركت غاسلي الأموال يعبرون الحدودَ والأسواقَ
حاملين جوازاتِ سفرِ العولمةِ، التي صارت تعني: "أن تعيشَ وتعملَ في
الخليجِ والشرقِ الأقصى، وتستثمرُ في أمريكا، وتفلسُ في سويسرا".
كان
"توماس كارليل" أولَ من استخدمَ تعبيرَ "السلطةِ الرابعةِ" لوصفِ النفوذِ
الذي كانت تتمتعُ به الصحافةُ في القرنِ التاسعِ عشرَ، حين كانت السياسةُ
أقوى من الاقتصادِ، والفلسفةُ أهم من "البيزنس". أما اليومَ فقد أزاحت
سلطةُ الاقتصادِ الإعلامَ عن عرشِهِ، فتحولَ من رقيبٍ على المصلحةِ
العامةِ، إلى سجينٍ تكبلهُ الأغلالُ، أو متهمٌ في أحسنِ الأحوالِ.
لقد
كانَ واضحًا مثلاً أنَّ صحيفةَ "فاينانشال تايمز" البريطانية تعاطت مع
الأزمة الاقتصاديةِ بحرفية أكثر من منافستها "وول ستريت جورنال" الأمريكية،
التي تعاني من ضغوطٍ هائلةٍ تعمي نظرتَها وتشلُّ حركتَها. فهي تأتمرُ
أولاً بأوامرِ "روبرت ميردوخ" الذي حولها إلى منبرٍ سياسي يحفلُ
بالانتخاباتِ الأمريكيةِ أكثر من المشكلاتِ الاقتصاديةِ، وتأتمرُ ثانيًا
بأوامرِ دهاقنةِ المالِ في نيويورك، فلا تجرؤ على تجاهلِ مصالحِ الشركاتِ
الكبرى التي تستطيعُ أن تصيبها بالشلل، بمجردِ تقليصِ حصتها الإعلانية.
تعيشُ
الصحافةُ المطبوعةُ – وحتى المرئية – اليومَ في دوامةٍ يصعبُ الخروجُ
منها. فقد أدى تحالفها مع الشركاتِ وبيوت التمويلِ إلى انصرافِ القراءِ
عنها، فتراجعت أرقامُ التوزيعِ، وبدأت الصحافةُ الإلكترونيةُ والمدوناتُ
تسحبُ ما تبقى لها من حصةٍ في الأسواقِ، حتى ليبدو أنه لا توجدُ مبرراتٌ
منطقيةٌ، أو أسبابٌ عمليةٌ تدعو الصحافةَ المطبوعةَ إلى محاولةِ إنقاذ
نفسِهَا. وعندما اضطرت الصحفُ اليوميةُ والقنواتُ الفضائيةُ إلى بثِّ
محتواها عبرَ الإنترنتِ، فإنها كانت تعترفُ بأن زمنَها قد ولى. وأمامَ
ضغوطِ الحاجةِ إلى التمويلِ، وقعت الصحافةُ السياسيةُ في قبضةِ السلطةِ
التنفيذيةِ، وسقطت صحافةُ "البيزنس" في شباكِ المؤسساتِ الماليةِ والشركاتِ
العقاريةِ التي تدفعُ مقابلَ كلِّ خبرٍ وتحقيقٍ وإعلانٍ يبرزُ إنجازاتِهَا
ويسترُ عوراتِهَا.
لقد
بدا تحالفُ السلطاتِ التنفيذيةِ والقضائيةِ والتشريعيةِ ضدَّ السلطةِ
الرابعةِ "الإعلاميةِ" وكأنه حتميةٌ اقتصاديةٌ؛ لأن سلطةً (خامسة) أو هي
سطوةٌ خامسةٌ قد ظهرت وتغوَّلت، وهي سلطةُ الفساد ورأسِ المالِ. ومع تراجعِ
دورِ الإعلامِ كرقيبٍ على السلطاتِ، بدأت سلطةُ الإنترنتِ تبرزُ من خلالِ
المدوناتِ وحلقاتِ التشبيكِ الاجتماعي، لكن سلطةَ رأسِ المالِ طالتها
أيضًا؛ حتى لم يعد أمامَ عالمنا المأزومِ سوى إعادةِ توزيعِ السلطاتِ.
فأيُّ مساحةٍ حرةٍ – وإن كانت إلكترونيةً – تتم معاقبتها أو مكافأتها تبعًا
لتوجهاتِهَا. فأشهرُ قاعدةٍ ذهبيةٍ في الفلسفةِ الساخرةِ تقول: "من يملكُ
الذهبَ، يضعُ القواعدَ."
خيارنا
الوحيدُ اليومَ هو: إما أن نُجلِسَ "الأخلاقَ" على العرشِ، ونتحلى بالقليل
من الحكمة ونعيد للضميرِ تاجَه الأعلى، وإلا سيبقى الشيطانُ يرقصُ في
الجيوبِ ويغازل القلوب.
نسيم الصمادي
معروفٌ
عني في دائرةِ الأصدقاءِ والعملاءِ أنني مفرِطٌ في التفاؤلِ. فقد منعني
تفاؤلي الدائم من الاستثمارِ في "البورصات" المحلية والعالمية، فنفذتُ
بجلدي، وصارَ بإمكاني أن أتحدثَ من خارجِ دائرةِ الأزمةِ. وها أنا أعتمر
قبعة "إدوارد دي بونو" وأتحدثُ بلغةٍ متشائمةٍ. فلا ضير في أن يعلو صوت
واحد متشائم حتى وإن بدا نشازًا؟ فنحن نعيش في عالم "ناشز"! ولذا فأنتم
تعرفون سبب هذا التشاؤم؛ إنه الأزمات المتواترة التي تجتاحُ العالمَ، والتي
من الصعبِ القولُ بأنَّ وراءَها إعلامًا ومؤسساتٍ وقراراتٍ مسؤولةً.
لا أرى في عالمنا إعلامًا واحدًا؛ بل ثلاثة إعلامات:
-
الإعلامُ الأول في دولِ العالمِ الأولِ – أو في المجتمعِ الرأسمالي –
وهو إعلامٌ اقتصادي. فسواءٌ تحدثَ عن: كتابِ التاريخِ الذي أهداه "شافيز"
لـ"أوباما"، أو عن رفعِ الحصارِ الأمريكي عن كوبا، أو عن خُـلعِ السيدة
ِ"روبين" لزوجها الممثل "مل جبسون"، فهو دائمًا يبحثُ بين السطورِ عن
"الأرقامِ." فليسَ مهمًا لماذا وقعَ الطلاقُ! المهم هو: كم سيدفعُ السيدُ
"جبسون"، للسيدةِ "جبسون" بعدما وقع الطلاق لأسباب اقتصادية بعد زواجٍ دام
28 عامًا.
-
الإعلامُ الثاني هو إعلام الدولة الذي لا يهم القائمين عليه سوى إرضاءِ
السياسيين المستعدين للتضحيةِ بالإعلامِ والاقتصادِ وبالمجتمعِ ككلِّ
وأحيانًا بالعالمِ كلِّهِ؛ في سبيلِ أن لا يفلتَ الإعلامُ والزمامُ من بين
أيديهِم.
-
الإعلام الثالث هو إعلام العالمِ الثالثِ أو إعلام الفقر، وهو إعلامٌ
بلا هويةٍ. فهو تائهٌ بين رسالتِهِ الإعلاميةِ، وهويتِهِ الوطنيةِ،
ومشكلاتِهِ الاقتصاديةِ، والتزاماتِهِ الأمنيةِ، والمصالحِ الفرديةِ
والشخصيةِ؛ إذ تعلو وتهبطُ نغماتُهُ، تبعًا لمزاجِ الملحنِ الذي يكتبُ
النوتةَ الموسيقيةَ، أو القائدِ الذي يمسكُ بعصا "الماريشاليةِ".
يُفترضُ بالإعلامِ الثالثِ أن يلعبَ دورًا أكبرَ تجاه المجتمعِ الذي يحتاج هذا الدور، ولكنه لا يستطيعُ، وذلكَ لأسباب كثيرة منها:
- غيابُ الديموقراطيةِ والمؤسساتيةِ، فليسَ هناك من يحميهِ، وهو عاجزٌ عن حمايةِ نفسِهِ.
-
عجزُه عن الاقترابِ من الهمومِ الحقيقيةِ لمجتمعه، لأسبابٍ تاريخيةٍ
وثقافيةٍ، فهو مشتتٌ بين التراثِ والحداثةِ، وبينَ الماضي والمستقبلِ،
وبينَ القبائليةِ والليبراليةِ.
-
كما أن تحولَ رجالِ الإعلامِ إلى رجالِ أعمال وإعلانٍ، يقابلهُ تحولٌ
مضادٌّ لرجالِ أعمالٍ – ليس لهم علاقةٌ بالإعلامِ – إلى رجالِ إعلانٍ
ورجالِ إعلامٍ. فهو إمَّا إعلامُ "شرفٍ" أو إعلامُ "ترفٍ". إمَّا إعلامُ
"تكريمٍ" أو إعلامُ "تعتيمٍ": إعلامُ التكريمِ هو إعلامُ "التطبيلِ"
وإعلامُ التعتيمِ هو إعلامُ "التضليلِ". وأحيانًا يختلطُ الحابلُ بالنابلِ،
فلا يُعرف المسؤول من السائلِ، لأن الأسئلة التي يطرحها الإعلاميون كلها
إجبارية وإجاباتها محددة سلفًا.
"أوبرا" و"هيرمان": التزويرُ من أجلِ المالِ
أما
الإعلام العالمي فهو ليس أفضل حالاً، فقد استضافت "أوبرا" قبل تقاعدها
زوجين أمريكيين: حيث جاءَ الزوجُ واسمُهُ "هيرمان روزبلانت" وزوجتُهُ
"روما" ليرويا قصةَ حبِّهما الأبدي. وصفت "أوبرا" القصة – التي كانت على
وشكِ الصدورِ في كتابٍ – بأنها أروعُ قصصِ التاريخِ! ثم عادت وسحبت
تصريحَهَا بعدما سمعت أنَّ "دارَ بيركلي للنشرِ" تراجعتْ عن نشرِ الروايةِ
الزائفةِ التي من المفترضِ أنها تروي قصةً حقيقيةً.
ادَّعى
"هيرمان" أنَّه كان سجينًا في معتقلاتِ النازيةِ وهو في الثانيةِ عشرةَ.
وكانت هناك فتاةٌ جميلةٌ تقتربُ كلَّ يومٍ من أسوارِ المعتقلِ وتقذفُ لهُ
بتفاحةٍ يسدُّ بها رمقَهُ (طبعًا: أيُّ فتاة نراها من بعيدٍ سنراها جميلة،
فما بالكم بفتاةٍ نراها من وراءِ الأسوارِ!). وبعدما هاجرَ "هيرمان" إلى
أمريكا واستقرَّ في نيويورك، ذهبَ إلى موعدٍ غرامي رتبتهُ لهُ وكالةُ
زواجٍ، وإذا بالعروسِ المرشحةِ لمقابلتهِ هي نفسُ الفتاةِ التي كانت
تناولُهُ التفاحَ من خلفِ الأسوارِ!
كادت
كذبةُ "هيرمان" تنطلي على دورِ النشرِ وخبراءِ الإعلامِ. فقد أدخلت
"أوبرا" كتابَ "هيرمان" المزيفَ وعنوانُهُ "ملاكٌ على الأسوارِ" ضمنَ نادي
كتبها الشهيرِ؛ حيثُ رأت في كذبةِ الحبِ الكبرى فرصةً لحصدِ الملايين.
وبدأت دارُ "بيركلي" في طبعِ الكتابِ، لتحولَ التاريخَ والعواطفَ والحبَّ
إلى "بيزنس." وأبدى الإعلامُ الأمريكي استعدادَهَ لتصديقِ الكذبةٍ بسبب
حالة الملل واليأسِ التي يعيشُها. فمن الواضحِ بعدَ سقوطِ رموزِ الحضارةِ
الغربيةِ – بدءًا من أسوارِ المالِ في "وول ستريت،" إلى أسوارِ الغرامِ –
أنَّ طبقةّ "الإنتلجنسيا" ورموزَ المالِ والأعمالِ ودورَ النشرِ، يصنعون
الأساطيرَ، ثم يصدقونها!
ولم
ينكشفُ الغطاءُ عن أسطورةِ الحبِّ الزائفِ إلا بسبب أقارب العاشقِ المزيفِ
"هيرمان" الذين أعلنوا أنه كاذبٌ! فتحركَ المؤرخون ليعترفوا بأن زمنَ
المعجزاتِ قد ولى، وأنَّ روايتَهُ كاذبةٌ. ثم اعترفَ الزوجان الكاذبان
بأنَّ الحبَّ عبرَ الأسوارِ كانَ خيالاً محضًا، وفرصةً لمقايضةِ العواطفِ
والذكرياتِ بالدولاراتِ.
هناكَ
خيطٌ رفيعٌ يربطُ بينَ الاقتصادِ والفلسفةِ والأخلاقِ من جهة، وبين
"البيزنس" والسياسة من جهة أخرى. فمن الملاحظِ أنَّ صناعةَ النشرِ
الأمريكيةِ تحفلُ بكتبِ المؤلفين اليهودِ أكثر من غيرها؛ والسببُ هو سيطرةُ
رأسِ المالِ على وسائلِ الإعلامِ ووكالاتِ النشرِ والتوزيعِ. فسواءٌ كانَ
الكتابُ علميًا أو خياليًا أو أكاديميًا، فإنهُ يحظى بنصيبِ الأسدِ من
الدعايةِ والترويجِ؛ فيُقبلُ على تقريظهِ خبراءُ العلاقاتِ العامةِ
والنقادُ، فيقبلُ على شرائِهِ العبادُ؛ فالخلاصة أنه ليس هناك إعلامٌ
أخلاقي ومحايدٌ.
قبل
الأزمة الاقتصادية العالمية خرج خبير اقتصادي اسمُهُ "بيتر شيف" بكتاب
بعنوان: "دليل الانهيار"، بعدما قضى ثلاثةَ أعوامٍ وهو يحذرُ من الكارثةِ
الاقتصاديةِ، ولم ينصتْ أحدٌ، لأن الرجل محلل مالي وليس إعلاميًا. وعندما
وقعت الواقعة، هجمَ عليه الإعلاميون وعاتبوهَ متسائلين: "لماذا لم
تخبرنا؟". فتسعةُ آلافِ محررٍ ومراسلٍ اقتصادي في أمريكا، لم ينتبهوا إلى
الكارثةِ الاقتصاديةِ. أو أنهم انتبهوا.. ولكن منعتهمُ مؤسساتُهم من البوحِ
بالحقيقةِ. فهناك موانعُ وأسوارٌ وفلاترُ لا متناهيةٌ تعملُ على حجبِ
الحقائقِ.
نعم،
يمكننا حقًا تشبيهُ نصائحِ الإعلاميين باسترجاعِ الصندوقِ الأسودِ بعدَ
سقوطِ الطائرةِ. يعكفُ خبراءُ الطيرانِ على تحليلِ بياناتِ الصندوقِ بعدَ
السقوطِ، لعلهم يعرفون السببَ ويمنعون سقوطَ المزيدِ من الطائراتِ، إلا أن
طائراتٍ أخرى تسقطُ، فيتمُ التقاطُ المزيدِ من الصناديقِ السوداء، وكتابةِ
تقاريرَ جديدةٍ، والأزماتُ تتوالى!
هذا
هو حالُ الإعلام. فبعد أن كثر الضحايا، وأفلست دولٌ، وتفاقمت أعدادُ
العاطلين عن العملِ، خرجَ الصحفيون يحللون الأزمةَ، مثلَ كلبِ "شرلوك
هولمز" في روايةِ "الوهجِ الفضي". وقعت الجريمةُ في الليلِ والكلبُ لم
ينبح. فتحوَّلَ مجرى التحقيقِ من: من المجرمُ؟ إلى: لماذا لم ينبحُ الكلبُ؟
كلبُ
"الإعلامِ الاقتصادي" لم ينبَح هذهِ المرةِ.. ولن ينبَحَ. وهذا يذكِّرني
بنكتةٍ سياسيةٍ عراقية تقول: في أثناءَ الحربِ العراقيةِ الإيرانيةِ، بدأت
الكلابُ الإيرانيةُ تهربُ إلى الغربِ طالبةً اللجوءَ إلى العراقِ، والكلابُ
العراقيةُ تتوجهُ شرقًا طالبةً اللجوءَ إلى إيرانَ. وعلى الحدودِ تقابلَ
كلبان ودارَ بينهما حوارٌ أعربَ فيه كلٌّ منهما عن استغرابِهِ من هروبِ
الكلبِ الآخرِ. قالَ الكلبُ الإيراني: "أنا هاربٌ من طهرانَ بسبب العذابِ
وطلبًا للأكلِ والشرابِ، وقد سمعتُ أن بغدادَ مليئةٌ باللحمِ والأرز
والسمكِ." فردَّ الكلبُ العراقي مبتسمًا: "صحيح عيني، عندنا في العراق أكل
وفلوس، لكننا لا نستطيع أن ننبح".
في
أوقات الأزمات تصمت معظمُ الحكومات أو ما نسميه السلطةَ التنفيذيةَ، غاضةً
الطرفَ عما يحدثُ، ورافعةً شعارَ الاقتصادِ الحرِ، وتاركةً (اليدَ
الخفيةَ) تلعبُ دورَهَا في تحريكِ عجلةِ الاقتصادِ المندفعةِ إلى الهاويةِ.
ولا تتحركُ السلطاتُ التشريعيةِ في مجالسِ النوابِ والشيوخِ والشعوبِ،
لأنها تعملُ بردودِ الأفعالِ ولا تبادرُ إلى صياغةِ تشريعاتٍ تحمي المجتمعَ
من الاحتكاريين والمضاربين. أما السلطةُ القضائيةُ فليسَ من حقها أن تحققَ
أو تفتحَ أيَّ صندوقٍ أسودَ قبلَ وقوعِ الجريمةِ، وهي الآن تحققُ مع
الكلبِ الذي لم ينبَح، وتركت غاسلي الأموال يعبرون الحدودَ والأسواقَ
حاملين جوازاتِ سفرِ العولمةِ، التي صارت تعني: "أن تعيشَ وتعملَ في
الخليجِ والشرقِ الأقصى، وتستثمرُ في أمريكا، وتفلسُ في سويسرا".
كان
"توماس كارليل" أولَ من استخدمَ تعبيرَ "السلطةِ الرابعةِ" لوصفِ النفوذِ
الذي كانت تتمتعُ به الصحافةُ في القرنِ التاسعِ عشرَ، حين كانت السياسةُ
أقوى من الاقتصادِ، والفلسفةُ أهم من "البيزنس". أما اليومَ فقد أزاحت
سلطةُ الاقتصادِ الإعلامَ عن عرشِهِ، فتحولَ من رقيبٍ على المصلحةِ
العامةِ، إلى سجينٍ تكبلهُ الأغلالُ، أو متهمٌ في أحسنِ الأحوالِ.
لقد
كانَ واضحًا مثلاً أنَّ صحيفةَ "فاينانشال تايمز" البريطانية تعاطت مع
الأزمة الاقتصاديةِ بحرفية أكثر من منافستها "وول ستريت جورنال" الأمريكية،
التي تعاني من ضغوطٍ هائلةٍ تعمي نظرتَها وتشلُّ حركتَها. فهي تأتمرُ
أولاً بأوامرِ "روبرت ميردوخ" الذي حولها إلى منبرٍ سياسي يحفلُ
بالانتخاباتِ الأمريكيةِ أكثر من المشكلاتِ الاقتصاديةِ، وتأتمرُ ثانيًا
بأوامرِ دهاقنةِ المالِ في نيويورك، فلا تجرؤ على تجاهلِ مصالحِ الشركاتِ
الكبرى التي تستطيعُ أن تصيبها بالشلل، بمجردِ تقليصِ حصتها الإعلانية.
تعيشُ
الصحافةُ المطبوعةُ – وحتى المرئية – اليومَ في دوامةٍ يصعبُ الخروجُ
منها. فقد أدى تحالفها مع الشركاتِ وبيوت التمويلِ إلى انصرافِ القراءِ
عنها، فتراجعت أرقامُ التوزيعِ، وبدأت الصحافةُ الإلكترونيةُ والمدوناتُ
تسحبُ ما تبقى لها من حصةٍ في الأسواقِ، حتى ليبدو أنه لا توجدُ مبرراتٌ
منطقيةٌ، أو أسبابٌ عمليةٌ تدعو الصحافةَ المطبوعةَ إلى محاولةِ إنقاذ
نفسِهَا. وعندما اضطرت الصحفُ اليوميةُ والقنواتُ الفضائيةُ إلى بثِّ
محتواها عبرَ الإنترنتِ، فإنها كانت تعترفُ بأن زمنَها قد ولى. وأمامَ
ضغوطِ الحاجةِ إلى التمويلِ، وقعت الصحافةُ السياسيةُ في قبضةِ السلطةِ
التنفيذيةِ، وسقطت صحافةُ "البيزنس" في شباكِ المؤسساتِ الماليةِ والشركاتِ
العقاريةِ التي تدفعُ مقابلَ كلِّ خبرٍ وتحقيقٍ وإعلانٍ يبرزُ إنجازاتِهَا
ويسترُ عوراتِهَا.
لقد
بدا تحالفُ السلطاتِ التنفيذيةِ والقضائيةِ والتشريعيةِ ضدَّ السلطةِ
الرابعةِ "الإعلاميةِ" وكأنه حتميةٌ اقتصاديةٌ؛ لأن سلطةً (خامسة) أو هي
سطوةٌ خامسةٌ قد ظهرت وتغوَّلت، وهي سلطةُ الفساد ورأسِ المالِ. ومع تراجعِ
دورِ الإعلامِ كرقيبٍ على السلطاتِ، بدأت سلطةُ الإنترنتِ تبرزُ من خلالِ
المدوناتِ وحلقاتِ التشبيكِ الاجتماعي، لكن سلطةَ رأسِ المالِ طالتها
أيضًا؛ حتى لم يعد أمامَ عالمنا المأزومِ سوى إعادةِ توزيعِ السلطاتِ.
فأيُّ مساحةٍ حرةٍ – وإن كانت إلكترونيةً – تتم معاقبتها أو مكافأتها تبعًا
لتوجهاتِهَا. فأشهرُ قاعدةٍ ذهبيةٍ في الفلسفةِ الساخرةِ تقول: "من يملكُ
الذهبَ، يضعُ القواعدَ."
خيارنا
الوحيدُ اليومَ هو: إما أن نُجلِسَ "الأخلاقَ" على العرشِ، ونتحلى بالقليل
من الحكمة ونعيد للضميرِ تاجَه الأعلى، وإلا سيبقى الشيطانُ يرقصُ في
الجيوبِ ويغازل القلوب.
نسيم الصمادي
المصدر : إدارة . كوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق