الخميس، 30 أبريل 2015

أمة من العباقرة - روان للإنتاج الإعلامي والفني

أمة من العباقرة - روان للإنتاج الإعلامي والفني



عرض/ أحمد التلاوي
تعتبر
تجربة الهند النهضوية إحدى التجارب الناجحة في العالم الثالث، وباتت محل
اهتمام الكثير من الحكومات والباحثين والمراكز التي تحاول أن تسبر غور هذه
التجربة الفريدة التي -كما في الصين والبرازيل- نجحت في المزج بين الخصوصية
المجتمعية والانفتاح على الحضارات الأخرى والأخذ منها، مما خلق تجربة
تنموية لها طابعها الهندي الخاص.


والكتاب
الذي بين أيدينا للكاتبة البريطانية من أصل هندي أنجيلا سايني، يركز على
جانب من هذه التجربة، وهو دور التنمية البشرية في تجربة الهند النهضوية
التي تجاوزت آفاق بلادها، حيث العلماء والباحثون الهنود في كل مكان في هذا
العالم.


الكتاب
جاء في تسعة فصول، ولكنه ينقسم في الواقع إلى قسمين أساسيين، يتناول
أولهما كيفية صناعة العلماء والنابغين في الهند، سواء من جانب الدولة، أو
من خلال النمط التربوي المجتمعي في الهند وفق الخصوصية الثقافية لهذا
البلد.

-العنوان: أمة من العباقرة.. كيف تفرض العلوم الهندية هيمنتها على العالم
-المؤلف: أنجيلا سايني
-ترجمة: طارق راشد عليان
-اسم السلسلة: عالم المعرفة (422)
-الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت)
-عدد الصفحات: 288
-الطبعة: الأولى 2015

أما
القسم الثاني فيقدم مجالات ذات أهمية استطاع العلماء والمهندسون
والمخترعون الهنود فيها تقديم الجديد الذي استفاد منه العالم بأسره، مركزا
على الإلكترونيات، والطب والدواء، وتقنيات الصواريخ.


والكتاب
تغلب عليه لغة "قومية" بشكل أو بآخر، حيث تتفاخر الباحثة الهندية التي
ألفته بما حققه أبناء جلدتها من انتصارات في المجالات العلمية والإبداع،
ليس في الهند فحسب، وإنما خروجهم من حدود بلادهم الواسعة إلى آفاق العالم
كله.


فنجدها
تقول "يُشتهر الهنود والأفراد ذوو الأصل الهندي -أينما كنا نعيش في هذا
العالم- بأنهم محترفون ومجتهدون ومهرة ومجدّون ومهووسون بالحاسوب"، وترد
الفضل في ذلك إلى الزعيم التاريخي الهندي جوهر لال نهرو.


وسايني
محررة علمية بريطانية الجنسية، ولكنها ولدت لأبوين هنديين عام 1980،
وحاصلة على درجة الماجستير في العلوم الهندسية من جامعة أوكسفورد
البريطانية، كما أنها حائزة على جائزة الكاتب الأوروبي الصغير في مجال
العلوم عام 2009.


وتعود
قصة الكتاب إلى سلسلة من التحقيقات واللقاءات التي قامت بها سايني في
الهند على مدار ستة أشهر مع عدد من كبار وشباب العلماء الهنود في مختلف
المجالات، وخصوصا في المجالات التي تتعلق بالطب والهندسة والحاسب الآلي
والصواريخ.


والهند
التي يقترب تعدادها من 1.25 مليار نسمة -وهي بذلك ثاني أكبر دول العالم من
حيث عدد السكان بعد الصين- تملك صورة شديدة التناقض في هذا المجال، فبينما
يوجد بها أكبر عدد من الأميين في العالم بنسبة 60%، أي أكثر من 700 مليون
نسمة، فإنها تعتبر أكبر مصدر للعلماء والمهندسين في العالم.


ففي
الهند هناك نحو 400 جامعة تقدم لسوق العمل سنويا نحو مليوني خريج، بينهم
600 ألف مهندس، وهناك حوالي 16 معهدا للتقنية تقدم هذا العدد الكبير من
المهندسين والعلماء، من أهمها: معهد "بابا" للأبحاث الذرية، وأكاديمية
الأبحاث السنسكريتية.


وأول
ملمح تقدمه الكاتبة في هذا الأمر أن هذه الأمة من العباقرة اعتادت على أن
يكون هؤلاء العباقرة -على كثرتهم- مجرد كادحين أو موظفين. ورغم أنهم
يتمتعون بأكبر قدر ممكن من حرية العمل والاكتشاف، فإن مشاركة الهند في
مخرجات البحثية العالمية لا تتجاوز 3%، بعد كل من الولايات المتحدة
وبريطانيا بفارق شاسع.



"في الهند نحو 400 جامعة تقدم لسوق العمل سنويا قرابة مليوني خريج،
بينهم 600 ألف مهندس. وهناك حوالي 16 معهدا للتقنية تقدم هذا العدد الكبير
من المهندسين والعلماء من أهمها: معهد بابا للأبحاث الذرية، وأكاديمية
الأبحاث السنسكريتية"


هذه
المتناقضات ناقشتها الكاتبة بالتفصيل في كتابها، ووجدت أن أحد أهم أسباب
تراجع مساهمة العلماء والمهندسين الهنود في المحتوى البحثي العالمي، أن
كثيرا منهم بدأ يعود إلى بلده بعدما أبلى بلاء حسنا في بلاد الاغتراب،
وخصوصا في بريطانيا والولايات المتحدة، حيث "يدعمون" الإحصائيات الخاصة
بهذين البلدين في هذه المجالات.


فنحو
واحد من كل خمسة من جميع العاملين في حقل الرعاية الطبية وطب الأسنان في
بريطانيا، هم من أصل هندي، وواحد من كل ستة علماء موظفين يحملون درجة
الدكتوراه في العلوم أو الهندسة في الولايات المتحدة، آسيوي.


وتشير
إحصائية إلى أنه منذ مطلع الألفية الجديدة فإن أكثر من 30% من المهندسين
العاملين في وادي السيليكون -أحد أهم رموز الهيمنة الأميركية- هم من أصل
هندي، بينما يدير الهنود 750 من الشركات التقنية العاملة هناك.


ومن
أهم الشخصيات التي أجرت سايني حوارات معها وضمنتها في هذا الكتاب،
الملياردير نارايانا ميرثي مؤسسة شركة "إنفوسيس"، إحدى أهم الشركات العاملة
في مجال تقنيات الحاسب الآلي.


وأهم
الرسائل التي يعكسها الكتاب ويؤكد عليها، خمس رسائل: الأولى أن العلم ليس
خيارا للأمم التي تريد أن تجد لنفسها مكانا، بل هو أمر مفروض عليها، وهو
فريضة الوقت في ظل ثورة العلم وثورة المعلومات والاتصالات.


ولذلك
نجد أن النهضة العلمية في أي بلد إنما يأتي وفق إرادة سياسية تدعمه، وكما
حدث في الولايات المتحدة في عهد جون كينيدي الذي أطلق صيحة "أمة في خطر"
بعد نجاح السوفيات في إطلاق قمرهم الصناعي الأول، فإن نهرو -كينيدي الهند
في هذا الإطار- يقول إن "المستقبل سيكون للعلوم"، وبالتالي فقد أعلنها
صراحة أنه يريد أن تتحول الهند لكي تصبح "أمة عقلانية علمية من المحترفين
البارعين"، بحسب ما نقلته الكاتبة في كتابها المهم هذا.


الرسالة
الثانية تتعلق بأهمية التعليم وضرورة الارتقاء به من أجل تحقيق أهداف
التنمية والنهضة المختلفة، وهو ما بدا في حالة الولايات المتحدة خلال
ستينيات القرن الماضي، فمن أجل النهضة العلمية، كان إصلاح النظام التعليمي.


وكذلك
في الهند، فمن أجل البدء في نهضة علمية شاملة، كان تأسيس مئات الجامعات
والمعاهد المتخصصة، كما يبدو في الأرقام التي ذكرتها الكاتبة في ثنايا
الكتاب.


وتؤكد
الكاتبة أن الهند في هذا المجال تستند إلى تراث حضاري ومعرفي هائل، حيث
ظهرت الرياضيات وعلوم الفلك في الهند منذ آلاف السنين، وقبل نشوء حضارات
الغرب بمراحل.


وهي
الرسالة الثالثة التي تؤكدها سايني من خلال جولاتها التي شملت العديد من
مناطق الهند التقليدية، بعيدا عن الحواضر والعواصم والمدن الكبرى. فهي تؤكد
أن الهند بلد حضاري، وتنطلق في نهضتها العلمية الراهنة من تراث هائل في
المجالات العلمية والحضارية، وأن ما يتحقق من إنجازات في الوقت الراهن،
إنما هو امتداد لحضارة قديمة تطورت عبر آلاف السنين.


ولا
تنسى الكاتبة أن تشير إلى بعض الأساطير والقصص القديمة التي لم يتخل
الهنود عنها ولم تزل في وجدانهم، رغم التقدم العلمي الذي وصلوا إليه.



"تشير إحصائية إلى أنه منذ مطلع الألفية الجديدة، فإن أكثر من 30% من
المهندسين العاملين في وادي السيليكون هم من أصل هندي، بينما يدير الهنود
750 من الشركات التقنية العاملة هناك"


الرسالة
الرابعة تتمثل في أن النهضة العلمية وحيازة مكانة مهمة بين الأمم
المتقدمة، لا تتحققان إلا من خلال التراكم الحضاري، حيث تقول إنه في
الستينيات لم يكن بالإمكان أن يتصور أحد أن تبني الهند صاروخا يصل إلى
الفضاء الخارجي، بينما هي الآن تقوم بذلك وما هو أكبر منه.


فهي
تؤكد أن التقدم العلمي مهمة طويلة الأمد، ولا تتحقق إلا من خلال منظومة
عمل دائبة -عبر عقود طويلة- تشمل التعليم، وتشمل تعديل السياسات والقوانين
التي تحكم قطاعات الصناعات ذات الصلة.


الرسالة
الخامسة التي يؤكد عليه الكتاب، أن النهضة العلمية يجب أن لا تكون هدفا في
حد ذاتها، حيث إن العلم يخدم التنمية، فهناك تجارب روتها المؤلفة في هذا
الكتاب تعطي نظرة حول كيف يخدم البحث العلمي قضية الأمن الغذائي من خلال
المحاصيل المعدلة وراثيا، ومن خلال توجيه العلوم الطبية في مجال تحسين
الرعاية الصحية بهذا البلد.


وتبرز
جولات الكاتبة في أروقة الجامعات والمعاهد العلمية بالهند، كيف أن الشباب
الصاعد قد يكون لديه -بفعل كل ما حققته الأجيال السابقة- "طموح" ذاتي بأن
يصبح عالما في مجال من مجالات الهندسة أو الطب أو علوم الفلك.


غير
أن التفاصيل التي ذكرتها الكاتبة تشير إلى حقيقة مهمة، وهي أن الهند لم
تزل بلدا مستهلكا للتقنية وخصوصا الأميركية منها، فأهم الشركات التي تعمل
في مجال التقنية بالهند هي شركات أميركية، مثل "آي.بي.أم".


ومن
ثم فإنه لا يزال أمام الهند الكثير لكي تبني تجربة نهضة تحمل بصمة الهند
واسمها بشكل كامل، وهو ما يقترب في جانب منه بالخريطة السياسية لتوزيع
التقدم العلمي على مستوى العالم، حيث لا يزال الغرب وقواه الأنجلوسكسونية
على وجه الخصوص، بجانب اليابان في آسيا، القوى الأهم في عالم اليوم في مجال
التقدم العلمي.


وفي
النهاية، فإن الكتاب عبارة عن "وصفة" تشريحية مهمة لتجربة نهضوية من
العالم الثالث. وبطبيعة الحال، فإن مجال الحديث في الكتاب لا يأتي على
العالم العربي بأي ذكر!!


المصدر : الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق