الخميس، 3 سبتمبر 2015

«كُتّاب الأعمدة» والانحراف في معنى «الفساد»..د. عارف عوض الركابي - روان للإنتاج الإعلامي والفني

«كُتّاب الأعمدة» والانحراف في معنى «الفساد»..د. عارف عوض الركابي - روان للإنتاج الإعلامي والفني



بمناسبة
الحديث عن الحريّات الصحفية والمناداة بها، أردت أن أُلفت بعض الكتّاب إلى
أمر مهم، والنصيحة هي من حق المسلم على المسلم، فمن هذا الباب أنبّه إلى
قضية مهمة حقها بسط في كتاب لكن الحر تكفيه الإشارة فأقول:

يكثر
تناول موضوع «الفساد» و«المفسدين» في المنابر والمنتديات والمجالس، وأما
على صفحات الصحف فإن لهذا المصطلح الحضور الكبير حتى أصبح بعض كتاب الأعمدة
ببعض الصحف يمكن أن يطلق عليهم أنهم من «المتخصصين» في الحديث عن «الفساد»
و«المفسدين» ومن يتابع كثيراً من تلك الكتابات يجد أن «الفساد» الذي يتحدث
عنه بعض الكتاب هو الفساد الذي يكون مصدره بعض المسؤولين أو بعض الجهات
بالدولة، وقد يخصصون من ذلك: الفساد المالي أو الإداري الصادر من أشخاص
مسؤولين في الدولة أو جهات حكومية بعينها، وهكذا نجد أن مصطلح «الفساد»
و«المفسدين» أصبح له تفسير معين«يقصر عليه» في لغة بعض الصحافيين لا
يتجاوزونه، فهو بالتالي كما يقول علماء أصول الفقه عام قد خُصَّ «لا مُخصّص
صحيح».

ومن
باب الاحتراز وكما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «إنها صفية بنت حيي»
رواه البخاري ومسلم.. فإني قد نشرت سابقاً مقالات في «الفساد» و«المفسدين»
بهذا المعنى الذي أصبح بعض الصحافيين يقصرون معنى الفساد عليه.. أذكر منها:
«حرب الفساد والمفسدين من آكد حقوق المحكومين / مهمات في علاج ومحاربة
الفساد / رسالة إلى المفسدين ومضيعي الأمانات / سلسلة من أربع حلقات بعنوان
جريمة أكل المال الحرام صور ونماذج من الواقع / سلسلة من أربع حلقات
بعنوان أداء الأمانة بين الواقع والمأمول»، وكل هذه المقالات وغيرها منشور
على الشبكة بعد نشرها بهذه الصحيفة، تحدثت فيها عن الفساد وفق المنهج الذي
أدين الله تعالى به، فإن الشريعة التي علمتنا كيف نعبد ربنا وكيف نصلي
ونصوم ونزكي ونحج ووجهتنا للتعامل مع الناس وأحلت لنا أموراً وحرمت علينا
أموراً؛ هي نفس الشريعة التي نظمت العلاقة بين الحاكم والمحكوم ووجهت
لأهمية النصيحة ودورها وبينت أسلوبها الأفضل وطريقتها المثلى، فلست ممن
يريدون تكميم أفواه تنصح وتوجه وتسدد بالطريقة «الشريعة»، فشتان بين
الطريقة الشرعية والطريقة الخارجية!! وحتماً فإن الطريقة الشرعية هي الأصلح
والأحسن ولم تأتِ الشريعة إلا بما فيه الخير في الحال والمآل وما منعت منه
فإنه لما يترتّب عليه من الشر في الحال والمآل.

وإنما
قصدت بهذا المقال أن أبين أن مصطلح «الفساد» و«المفسدين» في القرآن الكريم
ليس كما عليه حال بعض كتاب الأعمدة ببعض الصحف، فهم قد قصروا الفساد فيما
ذكرت، بينما نجد أن هذا المصطلح يشمل أنواعاً كثيرة من أنواع الفساد وصوره،
غاب ذكرها عند كثير من هؤلاء الكتاب!! بل يزداد العجب عندما تجد من بين من
يحارب «الفساد المالي» ويتصدى له في كثير من مقالاته، وفي نفس الوقت فهو
يكتب بقلمه داعياً لترويج أنواع أخرى من الفساد كالعقدي أو الأخلاقي أو
الاجتماعي أو الأمني!!!

كثير
من القراء يعجبهم الحديث عن «الحكومة» و«الحكام» ونقدهم وهذا ما يدفع بعض
الكتاب لتسليط الضوء في كتاباته على هذا الجانب من باب «ما يطلبه القراء»..
فيفوت على نفسه الكتابة في صور كثيرة من صور الفساد الذي ينتشر في المجتمع
لعل الله تعالى أن يصلح بما يكتب حال البعض ويقل بسبب ذلك الفساد..

إذا أمسكنا بالمصحف الشريف وقرأنا في آيات الله تعالى التي جاء فيها ذكر «الفساد» و«المفسدين» فإننا نقرأ ما يلي:
نقرأ
قول الله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ
أَلَدُّ الْخِصَامِ «204» وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ
فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْفَسَادَ «205» سورة البقرة.. والفساد المذكور وإن كان العبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب لكن الوارد في نزول الآيات هنا هو «الفساد الأمني»
بالاعتداء من إهلاك الناس والبهائم وخيرات الأرض.. ولك أن تتعجب ممن نصّب
نفسه متحدثاً رسمياً عن «الفساد» و«المفسدين» ببعض الصحف.. وهو يدافع عن
متمردين تلطخت أيديهم بدماء معصومة وأنفس بريئة، وهلك بسببهم وما زال كثير
من الحرث والنسل.

ونقرأ
قول الله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ
ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ «40»
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
«41» الروم.

والفساد
المذكور في الآية الكريم عام، فالقرآن الكريم حذّر من الفساد بكل أنواعه
وصوره، والإسلام دين شامل فلا يجوز قصر المصطلحات على جزئيات ومن يفعل ذلك
فقد أساء لنفسه وفهمه وعلمه و«إصلاحه» الذي يدعيه، قال الله تعالى:
«أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا
جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ «85» سورة البقرة وقول الله
تعالى «ظهر الفساد في البر والبحر..» ورد في الآية السابقة بعد قول الله
تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ
مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».. وفي هذا تفسير
أن من صور الفساد بل أخطرها وأكثرها جرماً «الفساد العقدي».. من إعطاء بعض
المخلوقين حق الله تعالى الذي خلق لأجله السماوات والأرض وما بينهما والإنس
والجن.. فالذي خلق ورزق ويميت ثم يحيي هو الذي يجب أن يعبد، وصرف العبادة
لغيره هو الشرك بالله وهو من «الفساد» الذي يجب محاربته والتحذير منه، ولك
أن تعجب أن كثيرين من «المتخصصين» في الحديث عن «الفساد والمفسدين» قد غاب
عن مقالاتهم و«قواميسهم» أخطر صور الفساد في الأرض!! بل المؤسف أن بعض
الصحافيين يشارك أو ينشر عبادة غير الله من الطواف ببعض القبور ودعاء
الموتى من دون الله تعالى.

ونقرأ
في القرآن الكريم: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ
ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ «14»
.. والجحد هنا لكلمة «لا إله إلا الله».. و«المفسدون» هم فرعون وملأه، فهل
للملاحدة والمستكبرين عن عبودية الله تعالى نصيب في النصح والدعوة لدى بعض
«المتخصصين» في حرب الفساد؟!

ونقرأ
قول الله تعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ
وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ
إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ «77» سورة القصص، وهذا في شأن «قارون» وفساده معلوم
وهو نكران نعمة الله عليه فهذه صورة من صور الفساد الذي هو سوء أدب مع
الخالق وإنكار نعمته ونسبة النعمة للجهد الشخصي، وما أكثر انتشار مثل هذا
الوصف من الفساد!!!

ونقرأ
قول الله تعالى: «فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ
السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ «81» يونس، فالسحر فساد والسحرة مفسدون، يشركون بالله تعالى
ويعبدون الشياطين ويفرقون بين المرء وزوجه والأخ وأخيه ويتسببون في أضرار
بالمجتمع، فهل وجد السحرة والدجاجلة حظهم من التحذير في كتابات بعض
«المتخصصين» في الحديث عن الفساد؟!

ونقرأ
قول الله تعالى: «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ «28»
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ
فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ
قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «29»
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ «30» سورة
العنكبوت، فاللواط من الفساد في الأرض والزنا من الفساد في الأرض، وقد حذر
القرآن الكريم منهما وحذر من أسبابهما، ومن العجائب أن البعض يكثر الحديث
عن الفساد الذي خصّه بنوع معين هو «المالي» ومن جهات محددة، وفي نفس الوقت
يشجع أسباب انتشار الفواحش، فالاختلاط المحرم مثلاً والحفلات التي يجتمع
فيها الشباب والفتيات والغناء الذي وصفه الإمام مالك وغيره بأنه «بريد
الزنا» أي موصل إليه لأنه يهيج الشهوات ويثير الغرائز، هذه وغيرها من أسباب
الفواحش التي توصل إليها، فمن يخبر أولئك الكتاب ليفتحوا كتاب الله تعالى
ويتأملوا صور الفساد التي بسببها نزلت علينا المصائب والمحن وافتقدنا بركة
الوقت والعمر والمال وعمّ الغلاء وأحاطت بنا المهددات كإحاطة السوار
بالمعصم؟!

إنها دعوة من محب مشفق لأهل الصحافة لأن يراجعوا: «رسالة ومقاصد وأهداف الصحاف»
والموفق من وفّقه الله.
الانتباهة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق