الديمقراطية التوافقية مقترح لحل المشكلة السودانية - روان للإنتاج الإعلامي والفني
يمر
السودان هذه الايام بفترة زمنية نادرة في تاريخه السياسي ، تتمثل في ادراك
القوي السياسية الكبيرة المؤثرة بخطورة الوضع في السودان وخطورة مآلاته
اذا لم يتم تداركه .
تداخلت عوامل كثيرة جعلت قادت هذه القوي يقبلون علي بعضهم، حاملا كلا
منهم قدرا كبيرا من التنازلات والتسامح والقبول بالاخر من أجل الوطن . بل
تحس بانهم علي استعداد لقبول "رزالات" او "جهالات" او حتي "سفاهة" كثير من
ابناء الشعب قليلي الوزن السياسي والذين لم تعجمهم التجارب بعد ، ولم
يبذلوا كثيرا من الجهد لتطوير انفسهم وافكارهم ولا تتعدي نظرتهم ارنبة
انفهم ولا تذهب كثيرا من تحت اقدامهم .
هذا
الاستعداد بالقبول بالاخر من الاغلبية والتعددية لتقديم التنازلات للاخر
الذي يحس بالتهميش أولى مطلوبات نجاح ما يسمي بالديمقراطية التوافقية والتي
نعتقد انها تمثل احد المخارج للازمة السودانية بديلا للدمقراطية
الكلاسيكية والتي يكون معيار الاغلبية والاكثرية هو المفتاح للسلطة.
يقول ليبهارت وهو مفكر هولندي "ان الديمقراطية التوافقية تعبر عن
استراتيجية في ادارة النزاعات من خلال التعاون والوفاق بين مختلف النخب
بدلا من التنافس واتخاذ القرارات بالاغلبية.
وتعرف الديمقراطية التوافقية بانها نمط من انماط الديمقراطية يتميز
بعدم الاكتفاء بالاغلبية كمعيار وحيد للحكم ، واضافة معيار اخر هو التوافق
الذي يتضمن اشراك الاقليات المنتخبة في الحكم، وتعرف كذلك بانها نوع من
انواع الديمقراطية التمثيلية الا انها تتميز عنها بتراجع اسلوب الصراع
السياسي بين الاقلية والاغلبية وتعويضه بالتوافق والحكم الجماعي والاخذ
باكبر عدد ممكن من الاراء واشراك الاقلية المنتخبة في الحكم او في السياسات
الكبري .
في كتابه الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد ، يقول المفكر
الهولندي"رانت ليبهارت": ان الديمقراطية التوافقية مفهوم جديد تطور في
اوروبا وبالذات في البلدان التي تفتقر الي التجانس القومي وقام بدراسة
البلدان غير المتجانسة مستخدما ماليزيا ولبنان للمقارنة بين اوروبا واسيا
او العالمين الاول والثالث وتوصل الي انه في كلا الحالتين _كما في الامثلة
الاوروبية_ان الديمقراطية التوافقية ممكنة عندما تكون الظروف غير مواتية ،
وسوف تكون خصائصها المقاييس التي تقيس بها البلدان الاخري.
وعزا "ليبهارت" مصادر المشاكل الناجمة عن الانقسامات التي تناولت
مكونات مجتمعات العالم الثالث الي غياب توافق او وفاق موحد . والانقسامات
في دول العالم الثالث ترجع الي الهوية وما يرتبط بها. لذلك شدد علي ان في
مثل هذه المجتمعات ليست ثمة تمييز واضح بين المجال السياسي والمجال
الاجتماعي والمجال الشخصي ، وان الارتباطات المجموعاتية تتوافق مع الولايات
الاولية التي قد تتاسس علي اللغة والدين والعرف والجهة والروابط المبنية
علي الدم .
وبذلك تمثل الديمقراطية التوافقية احد النماذج المقترحة لمعالجة
مسألة المشاركة في المجتمعات التعددية او المتعددة خلافا للديمقراطية
التمثيلية ، التي تستند الي عناصر التنافس في البرامج والاستراتيجات
والاحتكام الي منطق الاغلبية الحاكمة والاقلية المعارضة والاعتماد المتواتر
علي اسلوب الاقتراع او الانتخاب بل تعتمد اساسا علي مواصفات بناء
التحالفات الكبيرة التي تضمن للمكونات الاساسية فرص التمثيل والمشاركة في
صنع القرارات من اعلي هرمه الي اسفله دون الخضوع لسلطة الاغلبية , اذ تحتفظ
الاقلية بحق النقض او الاعتراض مما يجعل قدرتها علي مواجهة الاغلبية.
وتجنب هيمنتها متاحة وممكنة علي صعيد الممارسة وهو ما لا تتيحه الديمقراطية
التمثيلية علي الرغم من اعترافها بشرعية المعارضة وضمان حقوقها الدستورية
في النشاط والعمل من اجل التحول الي اغلبية بدورها .
ففي ممارسة قاعدة الاكثرية والاقلية في الديمقراطية الكلاسيكية تبين
ان هذه القاعدة خطر علي الوفاق الوطني وعلي التماسك الداخلي ، لان الاقليات
غير قادرة علي الوصول الي السلطة ، فتشعر بانها مهمشة وضحية للتمييز، فلا
يعود عندها ولاء للنظام ولا حتي للوطن.
وبذلك
يمثل الاستبداد الديمقراطي خطرا قائما باستمرار ،ذلك لان من المحتمل جدا
ان تتعرض اقلية ما لهضم حقوقها من طرف اغلبية ، ولم يتمكن مفكري
الليبرالية من حل هذه المشكلة الا باقرارهم ضرورة تقرير حقوق الاقلية عن
المستوي الدستوري ضمانا لعدم اهدارها بواسطة الاغلبية فيما اسموه
"الديمقراطية التوافقية".
لذلك تطور الفكر السياسي الديمقراطي التوافقي تجاه الاعتراف بالحقوق
الجماعية والادارات الذاتية لاصحاب الهويات المتعددة "العرقية والمذهبية
والطائفية" ،وذلك منعا لاستبداد الاغلبية للاقلية من جهة ، وقطع طريق
التاثير الخارجي علي الشأن الداخلي من جهة اخري ، ولكن الاخذ بها يأتي عقب
الانتهاء من ارساء مطلوبات المواطنة كأساس للحقوق والواجبات.
فالديمقراطية التوافقية هي منح القوي السياسية التي تعبر عن مصالح الطوائف
والاحزاب المكونة للمجتمع، امكانية ايقاف قرارات القوي السياسية الاخري
عند اتخاذها لقرارات تضر بمصالحها، بغض النظر عن حجم الكتلة وذلك مع
افتراض وجود انقسام وصراع مجتمعي خطير لا يمكن من احتواؤه الا عبر هذه
الصيغة .
ويتميز النموذج التوافقي بقدرته الفائقة علي ايجاد حواجز حقيقية لا تسمح
بتعد او تجاوز من اية فئة اجتماعية علي حقوق فئة اخري الا باحتكار السلطة
كليا ولا حتي جزئيا ، حيث ينظم الدستور جميع تفاصيل التوافقية التي تجعل
العمل السياسي والحزبي في زاته وحتي العمل الانتخابي والبرلماني قوة جماعية
تساعد باختلاط ادوار الجميع من اجل مصلحة الجميع.
وهي
بذلك صيغة ديمقراطية جديدة تتقاسم السلطة في مجتمع تعددي وهي بالتالي بنت
شرعية للديمقراطية في جوهرها . فالديمقراطية التوافقية تقوم علي بناء
الدولة من خلال عقود (contracts)منفتحة علي التطور و سلطة ذات ائتلاف واسع
واستقلال ذاتي في نواح ذات صلة عضوية بخصوصيات وحدوية واقتناعات ايمانية
ونظام حصص في التمثيل الشعبي و حق نقض متبادل . وبذلك فهي تجسيد لحق
التمايز من غير تضحية لمبدأ وحدة الدولة .
ولذلك تتطلب الديمقراطية التوافقية ان يكون هناك توافق بين مكونات
المجتمع وتنظيماته السياسية ، بمعني اذا كان الحديث عن تشكيل السلطة
التشريعية من خلال صناديق الاقتراع ، فان البرلمان يقوم علي كتل برلمانية
قوية قادرة علي تمثيل الاقلية والاكثرية في الوقت نفسه . وهو ما يتطلب
اعترافا متبادلا بين كافة المكونات تجاه بعضها البعض وان يكون هناك اتفاقا
عاما علي اساس البرامج السياسية والاهداف المشتركة الجماعية العامة.
كما ان تمتين الوحدة الوطنية يقتضي نظاما سياسيا وطيدا يشرك كل الطوائف
والاحزاب في اتخاذ القرارات الوطنية بحيث لا يفرض أي حزب او طائفة علي
الامة ما لا يتناسب ولا يتلائم وتقاليد الطوائف والاحزاب الاخري. وهذا
النظام لا يمكن ان يكون تحت رحمة وايدلوجية الاغلبية والاكثرية
وهذا
النظام يفترض حكومة ذات ائتلاف عريض وفيتو متبادل حيال القرارات التي
تتناقض مع المصالح الحيوية لاحدي الجماعات، ونسبية اجمالية في توزيع
الوظائف لئلا تهيمن واحدة من الجماعات علي مناصب المسؤولية باسم القدرة او
العدد كما ان هذا النظام يتطلب استقلالية ذاتية لبعض القطاعات.
وتقوم الديمقراطية التوافقية علي اربعة خصائص هي (1):
اولاً
:- تكوين تحالف كبير يضم المكونات الاساسية للمجتمع اما ان تشكل تحالف
رئاسي كبير او في شكل تحالف حكومي كما في النظام البرلماني او في خلال لجنة
ذات ووظائف واسعة، وهذا التحالف يشمل حزب الاغلبية وسواه .
ثانيا :- حق الفيتو المتبادل للاكثريات والاقليات علي حد سواء من اجل منع احتكار السلطات او اتخاذ قرارات تضر بمصالح الاقليات .
ثالثا :- اعتماد قاعدة النسبية سوآءا على صعيد النظام الاتحادي ام تمثيل
الحكومة ام تشغيل مختلف الاطراف على مستوى الوظيفة العمومية وذلك لمنع
الفائز من الاستحواذ على كل شئ .
رابعا : الادارة الذاتية للشئون الخاصة لكل جماعة ومدى قدرة كل مكون من
مكونات المجتمع المتعدد علي الاستقلال بادارة شئونه الداخلية .ومن المعلوم
ان الفدرالية هي افضل صيغة لتطبيق الديمقراطية التوافقية وعلي نحو ناجح في
دولة بسيطة ومركزية.
ان السهولة النسبية في طرح التوافقية تجعل من استمرار النظام الديمقراطي
اوفر حظا ، ويمكن لهذه الحجة ان تستخدم كرد علي مختلف التهم المتعلقة
بالصيغة الديمقراطية الناقصة للديمقراطية التوافقية . فعندما يسود الشعور
بان مواطن الضعف هذه قد اضحت متزايدة الكلفة ، ولا سيما عندما تعتبر
متناقصة الضرورة، لان المجتمع قد اصبح اقل تعددية ، فلن يكون من الصعب ان
ينتقل المجتمع من نظام توافقي الي نظام ديمقراطي تنافسي .
ومما سبق نستطيع ان نقول ان معظم مطلوبات الديمقراطية التوافقية متوفر
الان في السودان ، كاحد مخارج الازمة التي نعيشها ، كما ان هناك كثير من
العوامل سوف تعمل علي انجاح التجربة واهم هذه العوامل :-
اولا :- الرغبة الصادقة من قادة القوي السياسية الكبيرة في تحقيق التوافق ،
وهذا يمثل احد اهم انجاح عوامل التجربة . وذلك لان قادة هذه القوي يمكن ان
يعملوا علي انجاح التجربة كما يمكنهم ان يعملوا علي افسادها ومن قادة
القوي الكبيرة دائما في مجال تطبيق الديمقراطية التوافقية هم الذين يطلب
منهم التنازل عن استحقاق معيار الاغلبية في الديمقراطية .
ثانيا:- هذه الرغبة في التوافق من قادة القوي ترجع الي مجموعة من العوامل اهمها:
انهم اقبلوا الي خيار التوافق بعد ان الميت ايا منهم الحيل في اسقاط او اقصاء الاخر .
ادراكهم ان عدم التوافق سيدفع ثمنه السودان وربما يتهدد الاخر في جزر السودان .
ادراك القوي الكبيرة من المعارضة ان البديل سوف يكون اسوأ من الوضع الحالي .
ان قادة القوي الكبيرة من المعارضة يتمتعون بعقل راجح وافق واسع وربما
يسعون من خلال احزابهم لارساء تجربة فكرية تقوم علي اجتهادهم .
قادة القوي السياسية حكومة ومعارضة بعضهم تجاوز الثمانين وبعضهم في
نهايات السبعين وبعضهم في نهايات الستين ، لذلك يكون ميلهم في الغالب لفعل
عمل جليل لختام حياتهم السياسية وربما بعضهم يفكر ان يكون لهم رصيد في
الاخرة .
ثالثا:- الحركات المسلحة ما حملت السلاح الا انها ترغب في تحقيق مطالب
معينة توافق عليه صناديق الاقتراع حسب معيار الاغلبية ان يحققوها ، هذا
اضافة لان القائمين علي الامر لم يستجيبوا لهم ، فكان خيارهم حمل السلاح .
وعن طريق التوافق الذي يتم التنازل فيه من الذين يملكون الاكثرية لرغبات
وتطلعات الاقلية مقابل ان ينعم الجميع بالامن والاستقرار .
رابعا:- يضمن حق الفيتو المتبادل اتفاق قائم التوافق عليه . وليس هناك
مشكلة كبيرة في اعتماد هذا المبدأ . والذي يعني في الاساس ان تتخذ القرارات
الكبيرة او التي تخص مجموعات معينة عن طريق الاجماع . بمعني اذا كان هناك
أي طرف معترض فلا يمكن اتخاذ القرار . وقد جربنا هذا الفيتو المتبادل في
اتفاقية السلام الشاملة للعام2005، فقد ضمنت الاتفاقية في الدستور ووضع شرط
الحصول علي 75% من الناخبين لتعديل الدستور. واذا تم الحصول علي هذه
النسبة لا يتم تعديل الدستور اذا كان ايا من طرفي الاتفاقية معترضا علي
الدستور . كذلك كانت القرارات في رئاسة الجمهورية توافق عن طريق التوافق او
الاجماع واذا كان هناك أي طرف معترض لا ينفذ القرار.
خامسا:- تطبيق النظام الفدرالي احد مقومات نجاح الديمقراطية التوافقية وهو
مطبق في السودان يتم فقط مراجعة اخطاء التجربة ومعوقات التطبيق .
سادسا:- كان اتباع الديمقراطية التوافقية في تونس احد العوامل الاساسية في
نجاح ثورة الربيع العربي التونسي ويرجع الفضل في ذلك للاستاذ راشد الغنوشي
الذي جر حزبه جرا علي التوافق الوطني واعتبر ان الحكم لا يكون مستقبلا الا
بالتحالف والائتلاف الراسخين في ظل الديمقراطية ناشئة وهشة مذكرا ان 50%+1
لا تكفي وحدها للحكم وان الرهان اليوم هو حماية الحرية والمسار الديمقراطي
وليس التمترس في مواقع السلطة .
والاستاذ
الباجي قائد السبسي وقف في وجه خيارات الاقصاء والاستئصال والهيمنة
واستطاع تعديل ميزان القوي وساهم بقسط كبير في تجاوز عقبة اختلال المشهد
والقطيعة التي كادت ان تستحكم بين الترويكا ومعارضيها. والمنصف المرزوقي
السياسي والمفكر والذي استطاع ان يقنع الكافة بانه يمكن ان يكون حلقة
الاتصال والملتقي بين كافة الاطراف .
ففي
غياب دولة ترعي شئون مواطنيها اوعدم قبول المواطنين بالحكومة, يمكن لهذه
الانتماءات ان تتفكك ، وفي دولة تعاني فيها مجموعات اثنية اضطهادا فمن
المتوقع انت تتاجج هذه الانتماءات الفئوية .
لذلك من المتوقع في ظل نظام توافقي يجعل جميع الفئات تشعر بانها مشاركة في
الدولة ان تتراجع هذه الانتماءات كلما تطور هذا النظام وشعر المواطنون
بانهم شركاء فعليين في الدولة.
فهل يستطيع الثلاثي السوداني "البشير والصادق المهدي والترابي" ان يقودوا
الشعب السوداني للتخلص من امراض الكراهية والحقد وسلوك الشيطنة والاقصاء
والنبش في الماضي، والانغماس في المزايدات وتصفية الحسابات لنصل بعد كل ذلك
بعد "عمر مديد" الي ديمقراطية الاغلبية والاقلية وقبول ثنائية الحكم
والمعارضة لحن ورضا قبول الاخر.
كتبه د. خالد حسين محمد
Email: khalid-hussain-52@hotmail.co.uk
السودان هذه الايام بفترة زمنية نادرة في تاريخه السياسي ، تتمثل في ادراك
القوي السياسية الكبيرة المؤثرة بخطورة الوضع في السودان وخطورة مآلاته
اذا لم يتم تداركه .
تداخلت عوامل كثيرة جعلت قادت هذه القوي يقبلون علي بعضهم، حاملا كلا
منهم قدرا كبيرا من التنازلات والتسامح والقبول بالاخر من أجل الوطن . بل
تحس بانهم علي استعداد لقبول "رزالات" او "جهالات" او حتي "سفاهة" كثير من
ابناء الشعب قليلي الوزن السياسي والذين لم تعجمهم التجارب بعد ، ولم
يبذلوا كثيرا من الجهد لتطوير انفسهم وافكارهم ولا تتعدي نظرتهم ارنبة
انفهم ولا تذهب كثيرا من تحت اقدامهم .
هذا
الاستعداد بالقبول بالاخر من الاغلبية والتعددية لتقديم التنازلات للاخر
الذي يحس بالتهميش أولى مطلوبات نجاح ما يسمي بالديمقراطية التوافقية والتي
نعتقد انها تمثل احد المخارج للازمة السودانية بديلا للدمقراطية
الكلاسيكية والتي يكون معيار الاغلبية والاكثرية هو المفتاح للسلطة.
يقول ليبهارت وهو مفكر هولندي "ان الديمقراطية التوافقية تعبر عن
استراتيجية في ادارة النزاعات من خلال التعاون والوفاق بين مختلف النخب
بدلا من التنافس واتخاذ القرارات بالاغلبية.
وتعرف الديمقراطية التوافقية بانها نمط من انماط الديمقراطية يتميز
بعدم الاكتفاء بالاغلبية كمعيار وحيد للحكم ، واضافة معيار اخر هو التوافق
الذي يتضمن اشراك الاقليات المنتخبة في الحكم، وتعرف كذلك بانها نوع من
انواع الديمقراطية التمثيلية الا انها تتميز عنها بتراجع اسلوب الصراع
السياسي بين الاقلية والاغلبية وتعويضه بالتوافق والحكم الجماعي والاخذ
باكبر عدد ممكن من الاراء واشراك الاقلية المنتخبة في الحكم او في السياسات
الكبري .
في كتابه الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد ، يقول المفكر
الهولندي"رانت ليبهارت": ان الديمقراطية التوافقية مفهوم جديد تطور في
اوروبا وبالذات في البلدان التي تفتقر الي التجانس القومي وقام بدراسة
البلدان غير المتجانسة مستخدما ماليزيا ولبنان للمقارنة بين اوروبا واسيا
او العالمين الاول والثالث وتوصل الي انه في كلا الحالتين _كما في الامثلة
الاوروبية_ان الديمقراطية التوافقية ممكنة عندما تكون الظروف غير مواتية ،
وسوف تكون خصائصها المقاييس التي تقيس بها البلدان الاخري.
وعزا "ليبهارت" مصادر المشاكل الناجمة عن الانقسامات التي تناولت
مكونات مجتمعات العالم الثالث الي غياب توافق او وفاق موحد . والانقسامات
في دول العالم الثالث ترجع الي الهوية وما يرتبط بها. لذلك شدد علي ان في
مثل هذه المجتمعات ليست ثمة تمييز واضح بين المجال السياسي والمجال
الاجتماعي والمجال الشخصي ، وان الارتباطات المجموعاتية تتوافق مع الولايات
الاولية التي قد تتاسس علي اللغة والدين والعرف والجهة والروابط المبنية
علي الدم .
وبذلك تمثل الديمقراطية التوافقية احد النماذج المقترحة لمعالجة
مسألة المشاركة في المجتمعات التعددية او المتعددة خلافا للديمقراطية
التمثيلية ، التي تستند الي عناصر التنافس في البرامج والاستراتيجات
والاحتكام الي منطق الاغلبية الحاكمة والاقلية المعارضة والاعتماد المتواتر
علي اسلوب الاقتراع او الانتخاب بل تعتمد اساسا علي مواصفات بناء
التحالفات الكبيرة التي تضمن للمكونات الاساسية فرص التمثيل والمشاركة في
صنع القرارات من اعلي هرمه الي اسفله دون الخضوع لسلطة الاغلبية , اذ تحتفظ
الاقلية بحق النقض او الاعتراض مما يجعل قدرتها علي مواجهة الاغلبية.
وتجنب هيمنتها متاحة وممكنة علي صعيد الممارسة وهو ما لا تتيحه الديمقراطية
التمثيلية علي الرغم من اعترافها بشرعية المعارضة وضمان حقوقها الدستورية
في النشاط والعمل من اجل التحول الي اغلبية بدورها .
ففي ممارسة قاعدة الاكثرية والاقلية في الديمقراطية الكلاسيكية تبين
ان هذه القاعدة خطر علي الوفاق الوطني وعلي التماسك الداخلي ، لان الاقليات
غير قادرة علي الوصول الي السلطة ، فتشعر بانها مهمشة وضحية للتمييز، فلا
يعود عندها ولاء للنظام ولا حتي للوطن.
وبذلك
يمثل الاستبداد الديمقراطي خطرا قائما باستمرار ،ذلك لان من المحتمل جدا
ان تتعرض اقلية ما لهضم حقوقها من طرف اغلبية ، ولم يتمكن مفكري
الليبرالية من حل هذه المشكلة الا باقرارهم ضرورة تقرير حقوق الاقلية عن
المستوي الدستوري ضمانا لعدم اهدارها بواسطة الاغلبية فيما اسموه
"الديمقراطية التوافقية".
لذلك تطور الفكر السياسي الديمقراطي التوافقي تجاه الاعتراف بالحقوق
الجماعية والادارات الذاتية لاصحاب الهويات المتعددة "العرقية والمذهبية
والطائفية" ،وذلك منعا لاستبداد الاغلبية للاقلية من جهة ، وقطع طريق
التاثير الخارجي علي الشأن الداخلي من جهة اخري ، ولكن الاخذ بها يأتي عقب
الانتهاء من ارساء مطلوبات المواطنة كأساس للحقوق والواجبات.
فالديمقراطية التوافقية هي منح القوي السياسية التي تعبر عن مصالح الطوائف
والاحزاب المكونة للمجتمع، امكانية ايقاف قرارات القوي السياسية الاخري
عند اتخاذها لقرارات تضر بمصالحها، بغض النظر عن حجم الكتلة وذلك مع
افتراض وجود انقسام وصراع مجتمعي خطير لا يمكن من احتواؤه الا عبر هذه
الصيغة .
ويتميز النموذج التوافقي بقدرته الفائقة علي ايجاد حواجز حقيقية لا تسمح
بتعد او تجاوز من اية فئة اجتماعية علي حقوق فئة اخري الا باحتكار السلطة
كليا ولا حتي جزئيا ، حيث ينظم الدستور جميع تفاصيل التوافقية التي تجعل
العمل السياسي والحزبي في زاته وحتي العمل الانتخابي والبرلماني قوة جماعية
تساعد باختلاط ادوار الجميع من اجل مصلحة الجميع.
وهي
بذلك صيغة ديمقراطية جديدة تتقاسم السلطة في مجتمع تعددي وهي بالتالي بنت
شرعية للديمقراطية في جوهرها . فالديمقراطية التوافقية تقوم علي بناء
الدولة من خلال عقود (contracts)منفتحة علي التطور و سلطة ذات ائتلاف واسع
واستقلال ذاتي في نواح ذات صلة عضوية بخصوصيات وحدوية واقتناعات ايمانية
ونظام حصص في التمثيل الشعبي و حق نقض متبادل . وبذلك فهي تجسيد لحق
التمايز من غير تضحية لمبدأ وحدة الدولة .
ولذلك تتطلب الديمقراطية التوافقية ان يكون هناك توافق بين مكونات
المجتمع وتنظيماته السياسية ، بمعني اذا كان الحديث عن تشكيل السلطة
التشريعية من خلال صناديق الاقتراع ، فان البرلمان يقوم علي كتل برلمانية
قوية قادرة علي تمثيل الاقلية والاكثرية في الوقت نفسه . وهو ما يتطلب
اعترافا متبادلا بين كافة المكونات تجاه بعضها البعض وان يكون هناك اتفاقا
عاما علي اساس البرامج السياسية والاهداف المشتركة الجماعية العامة.
كما ان تمتين الوحدة الوطنية يقتضي نظاما سياسيا وطيدا يشرك كل الطوائف
والاحزاب في اتخاذ القرارات الوطنية بحيث لا يفرض أي حزب او طائفة علي
الامة ما لا يتناسب ولا يتلائم وتقاليد الطوائف والاحزاب الاخري. وهذا
النظام لا يمكن ان يكون تحت رحمة وايدلوجية الاغلبية والاكثرية
وهذا
النظام يفترض حكومة ذات ائتلاف عريض وفيتو متبادل حيال القرارات التي
تتناقض مع المصالح الحيوية لاحدي الجماعات، ونسبية اجمالية في توزيع
الوظائف لئلا تهيمن واحدة من الجماعات علي مناصب المسؤولية باسم القدرة او
العدد كما ان هذا النظام يتطلب استقلالية ذاتية لبعض القطاعات.
وتقوم الديمقراطية التوافقية علي اربعة خصائص هي (1):
اولاً
:- تكوين تحالف كبير يضم المكونات الاساسية للمجتمع اما ان تشكل تحالف
رئاسي كبير او في شكل تحالف حكومي كما في النظام البرلماني او في خلال لجنة
ذات ووظائف واسعة، وهذا التحالف يشمل حزب الاغلبية وسواه .
ثانيا :- حق الفيتو المتبادل للاكثريات والاقليات علي حد سواء من اجل منع احتكار السلطات او اتخاذ قرارات تضر بمصالح الاقليات .
ثالثا :- اعتماد قاعدة النسبية سوآءا على صعيد النظام الاتحادي ام تمثيل
الحكومة ام تشغيل مختلف الاطراف على مستوى الوظيفة العمومية وذلك لمنع
الفائز من الاستحواذ على كل شئ .
رابعا : الادارة الذاتية للشئون الخاصة لكل جماعة ومدى قدرة كل مكون من
مكونات المجتمع المتعدد علي الاستقلال بادارة شئونه الداخلية .ومن المعلوم
ان الفدرالية هي افضل صيغة لتطبيق الديمقراطية التوافقية وعلي نحو ناجح في
دولة بسيطة ومركزية.
ان السهولة النسبية في طرح التوافقية تجعل من استمرار النظام الديمقراطي
اوفر حظا ، ويمكن لهذه الحجة ان تستخدم كرد علي مختلف التهم المتعلقة
بالصيغة الديمقراطية الناقصة للديمقراطية التوافقية . فعندما يسود الشعور
بان مواطن الضعف هذه قد اضحت متزايدة الكلفة ، ولا سيما عندما تعتبر
متناقصة الضرورة، لان المجتمع قد اصبح اقل تعددية ، فلن يكون من الصعب ان
ينتقل المجتمع من نظام توافقي الي نظام ديمقراطي تنافسي .
ومما سبق نستطيع ان نقول ان معظم مطلوبات الديمقراطية التوافقية متوفر
الان في السودان ، كاحد مخارج الازمة التي نعيشها ، كما ان هناك كثير من
العوامل سوف تعمل علي انجاح التجربة واهم هذه العوامل :-
اولا :- الرغبة الصادقة من قادة القوي السياسية الكبيرة في تحقيق التوافق ،
وهذا يمثل احد اهم انجاح عوامل التجربة . وذلك لان قادة هذه القوي يمكن ان
يعملوا علي انجاح التجربة كما يمكنهم ان يعملوا علي افسادها ومن قادة
القوي الكبيرة دائما في مجال تطبيق الديمقراطية التوافقية هم الذين يطلب
منهم التنازل عن استحقاق معيار الاغلبية في الديمقراطية .
ثانيا:- هذه الرغبة في التوافق من قادة القوي ترجع الي مجموعة من العوامل اهمها:
انهم اقبلوا الي خيار التوافق بعد ان الميت ايا منهم الحيل في اسقاط او اقصاء الاخر .
ادراكهم ان عدم التوافق سيدفع ثمنه السودان وربما يتهدد الاخر في جزر السودان .
ادراك القوي الكبيرة من المعارضة ان البديل سوف يكون اسوأ من الوضع الحالي .
ان قادة القوي الكبيرة من المعارضة يتمتعون بعقل راجح وافق واسع وربما
يسعون من خلال احزابهم لارساء تجربة فكرية تقوم علي اجتهادهم .
قادة القوي السياسية حكومة ومعارضة بعضهم تجاوز الثمانين وبعضهم في
نهايات السبعين وبعضهم في نهايات الستين ، لذلك يكون ميلهم في الغالب لفعل
عمل جليل لختام حياتهم السياسية وربما بعضهم يفكر ان يكون لهم رصيد في
الاخرة .
ثالثا:- الحركات المسلحة ما حملت السلاح الا انها ترغب في تحقيق مطالب
معينة توافق عليه صناديق الاقتراع حسب معيار الاغلبية ان يحققوها ، هذا
اضافة لان القائمين علي الامر لم يستجيبوا لهم ، فكان خيارهم حمل السلاح .
وعن طريق التوافق الذي يتم التنازل فيه من الذين يملكون الاكثرية لرغبات
وتطلعات الاقلية مقابل ان ينعم الجميع بالامن والاستقرار .
رابعا:- يضمن حق الفيتو المتبادل اتفاق قائم التوافق عليه . وليس هناك
مشكلة كبيرة في اعتماد هذا المبدأ . والذي يعني في الاساس ان تتخذ القرارات
الكبيرة او التي تخص مجموعات معينة عن طريق الاجماع . بمعني اذا كان هناك
أي طرف معترض فلا يمكن اتخاذ القرار . وقد جربنا هذا الفيتو المتبادل في
اتفاقية السلام الشاملة للعام2005، فقد ضمنت الاتفاقية في الدستور ووضع شرط
الحصول علي 75% من الناخبين لتعديل الدستور. واذا تم الحصول علي هذه
النسبة لا يتم تعديل الدستور اذا كان ايا من طرفي الاتفاقية معترضا علي
الدستور . كذلك كانت القرارات في رئاسة الجمهورية توافق عن طريق التوافق او
الاجماع واذا كان هناك أي طرف معترض لا ينفذ القرار.
خامسا:- تطبيق النظام الفدرالي احد مقومات نجاح الديمقراطية التوافقية وهو
مطبق في السودان يتم فقط مراجعة اخطاء التجربة ومعوقات التطبيق .
سادسا:- كان اتباع الديمقراطية التوافقية في تونس احد العوامل الاساسية في
نجاح ثورة الربيع العربي التونسي ويرجع الفضل في ذلك للاستاذ راشد الغنوشي
الذي جر حزبه جرا علي التوافق الوطني واعتبر ان الحكم لا يكون مستقبلا الا
بالتحالف والائتلاف الراسخين في ظل الديمقراطية ناشئة وهشة مذكرا ان 50%+1
لا تكفي وحدها للحكم وان الرهان اليوم هو حماية الحرية والمسار الديمقراطي
وليس التمترس في مواقع السلطة .
والاستاذ
الباجي قائد السبسي وقف في وجه خيارات الاقصاء والاستئصال والهيمنة
واستطاع تعديل ميزان القوي وساهم بقسط كبير في تجاوز عقبة اختلال المشهد
والقطيعة التي كادت ان تستحكم بين الترويكا ومعارضيها. والمنصف المرزوقي
السياسي والمفكر والذي استطاع ان يقنع الكافة بانه يمكن ان يكون حلقة
الاتصال والملتقي بين كافة الاطراف .
ففي
غياب دولة ترعي شئون مواطنيها اوعدم قبول المواطنين بالحكومة, يمكن لهذه
الانتماءات ان تتفكك ، وفي دولة تعاني فيها مجموعات اثنية اضطهادا فمن
المتوقع انت تتاجج هذه الانتماءات الفئوية .
لذلك من المتوقع في ظل نظام توافقي يجعل جميع الفئات تشعر بانها مشاركة في
الدولة ان تتراجع هذه الانتماءات كلما تطور هذا النظام وشعر المواطنون
بانهم شركاء فعليين في الدولة.
فهل يستطيع الثلاثي السوداني "البشير والصادق المهدي والترابي" ان يقودوا
الشعب السوداني للتخلص من امراض الكراهية والحقد وسلوك الشيطنة والاقصاء
والنبش في الماضي، والانغماس في المزايدات وتصفية الحسابات لنصل بعد كل ذلك
بعد "عمر مديد" الي ديمقراطية الاغلبية والاقلية وقبول ثنائية الحكم
والمعارضة لحن ورضا قبول الاخر.
كتبه د. خالد حسين محمد
Email: khalid-hussain-52@hotmail.co.uk
smc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق