الاستثمارات الصينية بإفريقيا: كيف نجحت الصين في كسب القارة الإفريقية؟ - روان للإنتاج الإعلامي والفني
اتضح
للصينيين أن الأفارقة يمتازون عن غيرهم بضعف القدرة الشرائية بسبب انتشار
الفقر؛ لذلك اعتمدوا أساسًا في رؤيتهم التجارية والتسويقية على جعل السلعة
الصينية أرخص ما في المتناول, وهو ما تحقق بالفعل إذ أدى غزو البضائع
الصينية للأسواق بالشركات الغربية الكبيرة إلى الشكوى من عدم قدرتها على
المنافسة وأصبح هناك توقع سائد بأن شروق الصين هو غروب للغرب.
كذلك
اعتمدت الصين على تغليب لغة المصلحة المتبادلة والاحترام والمساواة دون
التدخل في شؤون الآخرين مع تبني منطق مختلف عن السياسة المالية الغربية في
التعامل مع دول إفريقيا, يتجلى ذلك في القروض الميسرة والاستثمارات دون
شروط إضافة للمساعدات الجزيلة والتي عادة ما تكون في الغالب مساعدات عينية
ملموسة؛ فعادة يتم وضع هذه الأموال في حسابات مضمونة في بكين ثم يتم وضع
قائمة بمشاريع البنية التحتية المطلوبة، وتحصل الشركات الصينية علي عقود
لبنائها وهنا يتم تحويل الأموال إلى حسابات هذه الشركات, وهكذا تحصل في
النهاية إفريقيا على الطرق والموانئ (الملاعب, المساكن, الصالات,
المستشفيات, البنى التحتية... إلخ) وليس على النقدية التي قد تذهب إلى جيوب
المسؤولين الفاسدين وحساباتهم البنكية, في حين تحصل الصين على سمعة طيبة
وامتنان الشعوب الإفريقية لمجهوداتها الطيبة.
جاء
الترحيب الإفريقي بالشراكة الاقتصادية مع الصين نتيجة لبحث عن شريك
اقتصادي وسياسي يحترم لهم خصوصياتهم الثقافية والاجتماعية, بعد أن عاش
الأفارقة ردحًا من الزمن وهم يعانون خيبة أمل جرّاء الضربات الموجعة التي
تلقوها من الاستعمار الغربي الذي حرم بلادهم حتى بعد الاستقلال من شراكة
ثنائية، ومن استغلال لموارد قارتهم.
ما
كان من الصين إلا أن كانت قبلة ميمونة فرحت بها قلوب "المقهورين" نظرًا
لأوجه التشابه بين ثقافة الصينيين وثقافة الأفارقة؛ ففتحت لها ذراعيها حتى
غدت بعد حين أكبر شريك تجاري لإفريقيا. ولعل ذلك عائد في أساسه إلى الطفرة
الاقتصادية الصينية بتطوراتها المذهلة والتي تتقاطع في كثير من بداياتها مع
الكثير من الاقتصادات الإفريقية التي شهدت مؤخرًا نموًا باهرًا وصل في بعض
الحالات إلى معدل سنوي مرتفع (6% في نيجيريا), ولعل التشابه في البدايات
والمحن والصراع ضد المستعمر وعدم التخندق في جهة معينة (منظمة دول عدم
الانحياز) أفضى بالأفارقة إلى اعتبار الصين حليفًا استراتيجيًا وشريكًا
اقتصاديًا متقدمًا, يتمتع بمصداقية عالية وليست له أية نوازع أو تاريخ
استعماري مقيت.
الصين وجهة جديدة للقارة الإفريقية
تمتاز
العلاقات الصينية-الإفريقية بالاتساع والعمق, وهي قائمة أساسًا على قاعدة
المعاناة المتشابهة وأيام الشدة في الماضي, ولعل جذور هذه العلاقة ترجع في
العصر الحديث إلى الروابط المشتركة التي جمعت الصين مع الأفارقة,
فـ"الاهتمام الصيني بإفريقيا ليس بالأمر الجديد؛ ففي ستينات وسبعينات القرن
الماضي, تركز اهتمام بكين على بناء جسور التضامن العقائدي مع البلدان
النامية الأخرى لتعزيز الشيوعية الصينية, وعلى صد المد الاستعماري الغربي,
وفي أعقاب الحرب الباردة, تطورت الاهتمامات الصينية إلى مساع ذات صيغة
براغماتية كالتجارة والاستثمار والطاقة. وفي السنوات الأخيرة أخذت بكين
تنظر إلى القارة الإفريقية باعتبارها منطقة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية
كبيرة...". (1)
بدأ
كل شيء تقريبًا في آخر سبعينات القرن الماضي حين شرعت الصين في إصلاحاتها
الهيكلية في نظامها الاقتصادي واختارت أن تنفتح على العالم بشكل تدريجي
ومخطط, بحيث يَضْمَن هذا الانفتاح للصين الانتقال إلى مستوى اقتصادي متقدم
يكفل لها ترسيخ مكانتها الإقليمية والدولية ولعب أدوار مهمة في العالم,
ويحقق لمواطنيها نوعًا من العيش الكريم والرفاه المُرضي. وقد توجت تلك
الإصلاحات مؤخرًا بتصنيف الصين كثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد اقتصاد
الولايات المتحدة, وكأسرع اقتصاد كبير نامٍ والأسرع في الثلاثين سنة
الماضية وكأكبر دولة تجارية وأكبر مصدّر وثاني أكبر مستورد في العالم
وإدراجها ضمن الفئة المتوسطة الدنيا في العالم حسب نصيب الفرد من الناتج
المحلي البسيط وقدره 3180 دولارًا, وليس كل ذلك إلا نتيجة مباشرة لتلك
الإصلاحات المبهرة والخطوات الرائدة, التي جعلت العالم كله يعيش لحظات من
الإعجاب والتقدير للتجربة الصينية المتميزة.
ساهم
دخول الصين في نادي "الكبار" في خلق جو من التنافس والبحث عن الأسواق
المستوردة للمنتوجات والمصدِّرة للمواد الخام, بين الصين من جهة وبين
الأقطاب الاقتصادية التقليدية (أميركا والاتحاد الأوروبي) من جهة ثانية.
وقد برزت إفريقيا كوجهة أساسية لهذه الأقطاب الاقتصادية الكبيرة, لما تمتاز
به من ثروات ضخمة (من الطاقة والمعادن) وحاجة ماسّة لشريك اقتصادي يتفهم
الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية لهذه القارة. غير أن سياسة الصين
مع شركائها الاقتصاديين كانت كفيلة بتحويل ميزان التنافس الاقتصادي
لصالحها؛ إذ انتقل التبادل التجاري الصيني-الإفريقي من حدود مليار واحد من
الدولارات في حقبة السبعينات, ليرتفع مع مرور الوقت وليصل في عام 2013 إلى
ما يزيد على الـ200 مليار دولار, لتغدو صادرات إفريقيا إلى الصين ضعفي
الصادرات إلى الولايات المتحدة وأربعة أضعاف الصادرات الإفريقية إلى دول
الاتحاد الأوروبي.
قصة
العلاقات الصينية-الإفريقية, ليست وليدة اللحظة ولم تأت من فراغ؛ فالحضور
الصيني في إفريقيا بدأ من أيام الزمن الأولى وليست قصص الحرير الصيني في
أسواق مصر والمغرب إلا شواهد على أواصر تلك القربى. ولكن الاقتصاد أبى إلا
أن تكتب فصولها بقلم المصالح المتبادلة, لتعترف أروقة صناع القرار في الدول
الكبيرة أن الصين ببساطة تسرق إفريقيا من أحضان الغرب.
الرؤية الاقتصادية الصينية في إفريقيا
تنبني
الرؤية الاقتصادية الصينية أساسًا على مجموعة من العوامل المهمة والتي
يأتي في أولويتها ضمان التزود بالطاقة والمواد الخام التي تحرك عجلة
الاقتصاد الصيني ذي الاحتياجات الهائلة لموارد الطاقة (تُعتبر الصين ثاني
أكبر مستهلك للوقود في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية), دون أن
نغفل الرغبة العارمة لقطب اقتصادي رئيسي في النظام التجاري العالمي كالصين
في إيجاد موطئ قدم لها في قارة يكتسب جزء كبير من سكانها صفة المجتمع
الاستهلاكي, هذا بالإضافة إلى أن كسب الدول الإفريقية يحقق للصين دعمًا
وقوة سياسية في المحافل الدولية.
اتضح
للصينيين أن الأفارقة يمتازون عن غيرهم بضعف القدرة الشرائية بسبب انتشار
الفقر؛ لذلك اعتمدوا أساسًا في رؤيتهم التجارية والتسويقية على جعل السلعة
الصينية أرخص ما في المتناول, وهو ما تحقق بالفعل إذ أدى غزو البضائع
الصينية للأسواق بالشركات الغربية الكبيرة إلى الشكوى من عدم قدرتها على
المنافسة وأصبح هناك توقع سائد بأن شروق الصين هو غروب للغرب.
كذلك
اعتمدت الصين على تغليب لغة المصلحة المتبادلة والاحترام والمساواة دون
التدخل في شؤون الآخرين "العمل عمل, إننا نحاول فصل السياسة عن العمل" كما
قال زهو وينجونغ نائب وزير الخارجة الصيني، مع تبني منطق مختلف عن السياسة
المالية الغربية في التعامل مع دول إفريقيا, يتجلى ذلك في القروض الميسرة
والاستثمارات دون شروط إضافة للمساعدات الجزيلة والتي عادة ما تكون في
الغالب مساعدات عينية ملموسة؛ فعادة يتم وضع هذه الأموال في حسابات مضمونة
في بكين ثم يتم وضع قائمة بمشاريع البنية التحتية المطلوبة، وتحصل الشركات
الصينية علي عقود لبنائها وهنا يتم تحويل الأموال إلى حسابات هذه الشركات,
وهكذا تحصل في النهاية إفريقيا على الطرق والموانئ (الملاعب, المساكن,
الصالات, المستشفيات, البنى التحتية... إلخ) وليس على النقدية التي قد تذهب
إلى جيوب المسؤولين الفاسدين وحساباتهم البنكية, في حين تحصل الصين على
سمعة طيبة وامتنان الشعوب الإفريقية لمجهوداتها الطيبة.
تقوم
رؤية الصين الاقتصادية على أساس أن قضية الانفتاح على إفريقيا هي عقيدة
اقتصادية وسياسية واجتماعية، مثلما هي مصيرية أيضًا, ومتعلقة بالامتداد
الثقافي والتاريخي لكلا الطرفين؛ فالصين تسعى إلى تذليل كافة المصاعب
والمخاطر ومواجهة التحديات مع خلق الفرص من أجل تعميق الانفتاح والمزيد من
الإصلاح والنهوض بعوامل الإنتاج والاستغلال الأمثل لموارد الشريك الإفريقي.
كذلك فإن التجارة بين الطرفين تتيح للقارة السمراء الحصول على بضائع
متنوعة وبأسعار تنافسية في متناول الجميع, فضلاً عن توفير المزيد من
الاستثمارات التي تحتاجها لاقتصادها كما ستتاح لها الفرصة لتنويع علاقاتها
الاقتصادية مع العالم, وتحقيق أحلامها في النهضة الاقتصادية, خاصة وأن
المساعدات الصينية يتم منحها من دون ضغوط أو شروط سياسية.
في
إدارة وتأهيل المشاريع تمتاز الشركات الصينية عن غيرها بثلاثية: المال
والخبرة والعمال, على غير عادة الشركات الغربية التي كانت تأتي بالمال
والخبرة ولكنها غالبًا ما تستعين بالعمال من نفس البلدان المستقبلة
للاستثمار (تفرض أنغولا على الشركات الصينية أن يكون 30% من القوة البشرية
على الأقل في كل مشروع جديد من الأيدي العاملة المحلية). هذا التقليد
الصيني له مضاره الجسيمة وله منافعه المثمرة؛ فالقوة العاملة الصينية مدربة
تدريبًا جيدًا وتتمتع بإنتاجية عالية وهو ما يؤهلها للقيام بالأعمال على
أكمل وجه, ولكن هذا النوع من العمالة الوافدة إلى بلدان غالبًا ما تعاني من
نسب بطالة مرتفعة يشكّل عائقًا أمام القضاء على مشكل البطالة المتراكمة
لذلك غالبًا ما تواجَه هذه الشركات بامتعاض وغضب شديدين من طرف هذه الفئات
التي تعاني بين مطرقة البطالة وسندان العمالة الصينية ذات الكفاءة العالية
والتدريب الجيد.
وسائل الصين لتحقيق رؤيتها الاقتصادية في إفريقيا
كانت
الصين في بداية تغلغلها في القارة الإفريقية تعقد صفقاتها التجارية بمنطق
اقتصادي يقتضي شراء النفط والمواد الخام مقابل تطوير البنية التحتية, وذلك
لاختراق الاحتكار الاقتصادي الذي فرضته الدول الغربية على إفريقيا. كذلك
فإن عدم تدخل الصين في الشؤون الداخلية لأية دولة إفريقية وعرضها للقروض
والمنح والمساعدات دون اشتراطات لأية إصلاحات اقتصادية أو سياسية وقيامها
إلى جانب ذلك بمنح مظلة دبلوماسية لشركائها التجاريين الرئيسيين في القارة
الإفريقية, قد أكسبها مصداقية عالية وقبولاً لدى الأوساط الشعبية الإفريقية
التي تذكر للصين أنها لم تكن إمبراطورية استعمارية تعيش على نهب الثروات
وبيع البشر وتدمير البلدان الأخرى, على غرار الكثير من الدول الأوروبية
التي ساهمت في الماضي والحاضر في تخلف إفريقيا وضياعها.
في
12 أكتوبر /تشرين الأول 2000 بادرت الصين إلى إنشاء منتدي التعاون
الصيني-الإفريقي (FOCAC) لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بين الصين
والبلدان الإفريقية في القطاعين العمومي والخاص. وقد أصبح مؤخرًا يضم في
عضويته أكثر من 45 دولة إفريقية, وهو ما أسهم في ترسيخ التغلغل الصيني في
إفريقيا, ووضع العلاقات الاقتصادية الصينية-الإفريقية في مسار سريع؛ حيث
نمت التجارة الثنائية بين الصين وإفريقيا من 10.6 مليارات دولار في عام
2000 إلى 160 مليار دولار في عام 2011.
في
عام 2012 صادق المنتدى الخامس للتعاون الإفريقي الصيني في بكين على خطة
عمل للفترة ما بين 2013-2015 تقضي بحصول الدول الإفريقية على قروض مالية
ميسرة من الصين بـ20 مليارًا من الدولارات لتطوير البنى التحتية, الزراعية
والصناعية, وقد تقرر كذلك أن تساعد الصين الدول الإفريقية على تحقيق
التنمية الذاتية والتنمية المستدامة, إضافة إلى تدريب الصين لـ30 ألف كادر
من الدول الإفريقية في مختلف المجالات مع فتح الباب لتوفير 18 ألف منحة
دراسية للطلاب الأفارقة؛ حيث تبني الصين رؤيتها على أساس أن "الغزو
الثقافي" هو البديل المضمون ليرى الأفارقة الوجه الحقيقي للصين صاحبة
الحضارة العريقة وليست القوة الاقتصادية التي جاءت لاستنزاف موارد القارة؛
حيث بدأت بكين منذ 2009 مشروعًا ضخمًا للمنح الدراسية وصل بمقتضاه عدد
الطلبة الأفارقة في الجامعات الصينية لحوالي 12 ألف طالب يدرسون على نفقة
الصين.
من
أبرز الدول المستفيدة من التبادل التجاري الصيني-الإفريقي أنغولا الشريك
الإفريقي الأكبر للصين بحجم تجارة بلغ 17.66 مليارات دولار, تليها جنوب
إفريقيا 16.6 مليارات, والسودان 6.39 مليارات, ومصر 5.86 مليارات, ونيجيريا
6.37 مليارات. تستورد الصين من إفريقيا منتجات زراعية بنحو 2.33 مليارات
دولار, من بينها: القطن والبرتقال من مصر, والكاكاو من غانا, والبن من
أوغندا, والزيتون من تونس, والسمسم من إثيوبيا, والخمور من جنوب إفريقيا,
بالإضافة إلى الفوسفات والحديد والنحاس والبترول, خاصة من أنجولا والسودان
ونيجيريا, إضافة للجلود والرخام والنسيج والمعادن ومنتجات الأخشاب من بعض
الدول الإفريقية الأخرى.
أنشأت
الصين في إفريقيا 3300 كم من الطرق و30 مستشفى و50 مدرسة و100 محطة لتوليد
الطاقة في أكثر من 40 دولة إفريقية, ويقدر عدد الشركات الصينية أو فروعها
بأكثر من 2000 شركة (كان عددها 700 عام 2005)، كلها نشطة في مجال الزارعة
والتعدين والبناء والتعمير وقطاعي التجارة والاستثمار ومعالجة منتجات
الموارد، والتصنيع، والدعم اللوجستي التجاري. هذا، بالاضافة إلى العمال
والخبراء الصينيين وكذلك التجار والأطباء حيث أرسلت الصين ما يقارب 1600
طبيب إلى المناطق الريفية الإفريقية.
الاستثمارات الصينية في إفريقيا ومجالاتها
تستقبل
الدول الإفريقية الاستثمار الصيني بالترحيب، نظرًا لجاذبية النموذج
التنموي الصيني كون الصين حققت نجاحات كبيرة وسريعة ترغب الدول النامية في
نسخ تجربتها, وتمتلك الصين مخزونًا نقديًا ضخمًا يناهز 3 تريليونات دولار
(3000 مليار), هذه الموار المالية الهائلة موجهة في جزء كبير منها
للاستثمارات الصينية في الخارج, والتي تمتد في جميع المجالات طولاً وعرضًا,
في الطاقة والزارعة والتعدين والبناء، وقطاعي: التجارة والخدمات ومعالجة
منتجات الموارد، والتصنيع، والدعم اللوجستي التجاري. ويشرف على تلك العملية
(بنك الاستيراد والتصدير) هذه المؤسسة المصرفية التابعة للدولة والتي تلعب
دورًا أساسيًا في إعطاء القروض للحكومات الإفريقية، وهي التي تقترح منح
هذه القروض من خلال شروط تفضيلية. وبالموازاة مع ذلك يتم التفاوض على عقود
أشغال عمومية؛ حيث تتبوأ الطاقة والمعادن رأس الأولويات الاقتصادية
الصينية, لذلك تعتمد الصين في توسعها في مفاصل الاقتصاد في إفريقيا على عدة
شركات مملوكة للدولة؛ ففي مجال المواد الأولية والطاقة هناك شركة الصين
الوطنية للبترول وشركة الصين للمواد البترولية والكيميائية من بين شركات
أخرى، وهي تنفذ سياسة تزويد الصين بالطاقة من خلال استغلال الحقول
البترولية في إفريقيا بشروط ملائمة, لضمان تدفق الطاقة إلى محركات الاقتصاد
الصيني النشطة.
في
ربيع عام 2008 وقّعت الصين والكونغو اتفاقية اقتصادية في مجال التعدين
تحصل الصين بموجبها على 11 مليون طن من النحاس و620 ألف طن من الكوبالت
خلال الـ25 عامًا القادمة مقابل مد 3000 كم من السكك الحديدية ورصف 3200 كم
من الطرق، وبناء مئات العيادات والمستشفيات والمدارس وجامعتين.
ترتقي
العلاقات الصينية-الجزائرية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية, وتقدر
العمالة الصينية في الجزائر بنحو 30 ألفًا في مختلف المجالات (الطاقة,
البناء, التكنولوجيا, الري) موزعين على أكثر من 50 شركة صينية, لإدارة
حقيبة استثمارية تناهز المليارين من الدولار ومبادلات تجارية تقارب الـ8
مليارات (تعتبر مصر ثالث أكبر شريك اقتصادي للصين في إفريقيا ويبلغ حجم
الاستثمارات الصينية في السوق المصري حيث بلغ إجمالي الاستثمارات الصينية
في مصر 9.5 مليارات دولار تتركز في قطاعات المشروعات الصناعية والإنشائية
والخدمات). كذلك تسيطر الصين على نسبة لا يستهان بها من حقول النفط في
السودان حيث يبلغ إجمالي استثماراتها في ذلك المجال زهاء الـ4 مليارات, وفي
تشاد أنشأت شركة الصين الوطنية للنفط بالتعاون مع الدولة التشادية مصفاة
نفطية في يونيو/حزيران من عام 2011، ولمدة 99 عامًا ستستغل الشركة الصينية
المصفاة بواقع 60% للجانب الصيني 40% للجانب التشادي.
كذلك
تستثمر الصين أيضًا في العديد من الدول الإفريقية، من بينها: غينيا،
ونيجيريا (40 شركة صينية)، وأنغولا وإفريقيا الجنوبية، وذلك بفضل تنوع
الاستثمار الصيني مع تركيزه على الموارد الأساسية أو الثروات، كالنفط
والمعادن والتي يمكن أن تجعل من إفريقيا قارة مصدِّرة أكثر بكثير من اليوم
لهذه السلع الحيوية.
مستقبل التعاون الاقتصادي الصيني-الإفريقي: الحوافز والحواجز
في
إطار سعيها للمنفعة المتبادلة بين الصين وإفريقيا ساهمت الصين في تعزيز
قدرة إفريقيا في الاعتماد على الذات, وتطوير قطاعها الزراعي عن طريق
المساعدة في تشييد مراكز توضيحية للتقنية الزراعية, وتقوم بتنفيذ عمليات
تشييد للبنية التحتية تحت إطار القروض الميسرة دون فوائد ومقابل تسديد
تكلفة تلك المشاريع بتوريد المواد الخام إلى الصين, وتشجعها على تحسين
نظامها الجمركي ومرافق التفتيش الجمركي بل وصل الأمر إلى إلغاء التعرفة
الجمركية عن الصادرات الإفريقية إلى الصين.
بديهي
أن الصين ساهمت نسبيا في القضاء على الفقر في إفريقيا أكثر من غيرها من
المستثمرين, وأن الاستثمارات والمساعدات الصينية في مجالات التنمية ساعدت
على تنويع التنمية الاقتصادية في البلدان الإفريقية ووطدت الأساس للتنمية
الاقتصادية في القارة ورفعت من قدرتها على التنمية المستقلة وحسّنت من قدرة
الأفارقة جزئيًا على المنافسة في المجال الاقتصادي العالمي ودفعت بالشركات
الصينية إلى عولمة التنمية والاقتصاد المالي. بل قد تمددت الأنشطة
الاستثمارية في مجالات الزراعة والتعدين والبناء إلى المعالجة المكثفة
للقمامة والمخلفات والتصنيع والتمويل والعقارات.
غير
أن الصينيين يتعرضون إلى انتقادات كبيرة في سلوكهم الاستثماري الذي يتأثر
بالاعتبارات السياسية أكثر من الاقتصادية (في الكونغو قامت الصين ببناء
مئات الكيلومترات من الطرق السريعة في مدن ليس لها أهمية تُذكر غير أنها
مقر لبعض كبار الزعماء السياسيين), وللمباني الصينية قصة في أنغولا؛ حيث تم
تشييد مستشفى في لواندا عاصمة أنجولا، وتم افتتاحه وسط ضجة كبيرة ولكن بعد
بضعة أشهر ظهرت شروخ في الجدران وتم إغلاقه, وكذلك المناجم التي تديرها
شركات صينية في زامبيا لا يتمكن العمال من الحصول علي خوذات سلامة قبل أن
يمر عامان على عملهم في المنجم. هذا، بالإضافة إلى أن التهوية تحت الأرض
سيئة والحوادث القاتلة تقع بشكل شبه يومي، ومن أجل أن تهرب هذه الشركات من
تحمل المسؤولية تقوم بدفع رشوة إلى الاتحادات العمالية. كذلك من ملامح حرب
تكسير العظام ضد الصينيين في إفريقيا ما حصل منذ سنوات في الموزمبيق وجنوب
السودان وغينيا الاستوائية, حين قامت بعض الاحتجاجات ضد الشركات الصينية
بتهمة تلويث البيئة. بل وصل الأمر إلى "اختطاف المتمردين في جنوب السودان
لعمال صينيين في 2004. وفي إبريل/نيسان 2006 قامت حركة تحرير دلتا النيجر
المسلحة (مِند) في جنوب نيجيريا الغني بالنفط، بتفجير قنبلة احتجاجًا على
حصة صينية بمبلغ 2.2 مليار دولار في حقول نفطية بالمنطقة. وفي يوليو/تموز
2006، وقعت احتجاجات عنيفة وحالات موت في منجم نحاس يملكه صينيون في
تشامبيسي في زامبيا. وفي فبراير/شباط 2007 قام أحد المهاجمين بغارة على
مصنع لصناعة الحجارة في كينيا وقتل عاملاً صينيًّا. في إبريل /نيسان 2007،
قتلت الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين (أونلف) مهندسين إثيوبيين وصينيين في
حقل نفط تابع للشركة الصينية للصناعات البتروكيميائية في منطقة أوغادين.
وفي عام 2008 أخلت الصين 212 من مواطنيها من تشاد إلى الكاميرون بعد صدامات
مسلحة في العاصمة التشادية"(2). ومع ذلك تتحدث بعض التقارير والأبحاث عن
أن نظرة الناس في عشر دول إفريقية للصين إيجابية أكثر منها للولايات
المتحدة، وأن بعضهم يري أن إلقاء اللوم في مسألة انتهاك حقوق الإنسان
والفساد وتدمير البيئة في الدول الإفريقية يجب أن يُلقى على القادة
الأفارقة لا على الصين.
في
افتتاحيته للمؤتمر الوزاري الأخير للمنتدى الاقتصادي الصيني-الإفريقي
(2012 في بكين), قال الرئيس الصيني هيو جنتاو: "إن شجرة الصداقة
الصينية-الإفريقية التي غرسها الأجداد تحتاج إلى رعاية مستمرة من الأحفاد
جيلاً بعد جيل", وهذا دليل قاطع على أن الصين تدرج العلاقات الاقتصادية مع
إفريقيا على رأس أولوياتها وتنظر لها كفرصة لتطوير اقتصادها وتحريك عجلاته
العملاقة، مع سيادة منطق الإخلاص والصداقة والمساواة, وتغليب لغة المنافع
التبادلية والازدهار المشترك والدعم المتبادل والتنسيق الوثيق والتعاون مع
إفريقيا والأمم المتحدة والأنظمة التعددية والتعلم من بعضهم البعض، والحرص
على التنمية المشتركة، وفق مبدأ الصين الواحدة وإفريقيا المستقلة.
للتحميل pdf
______________________________
* الشيخ باي الحبيب، باحث موريتاني مهتم بالشأن الاقتصادي.
مركز الجزيرة للدراسات
للصينيين أن الأفارقة يمتازون عن غيرهم بضعف القدرة الشرائية بسبب انتشار
الفقر؛ لذلك اعتمدوا أساسًا في رؤيتهم التجارية والتسويقية على جعل السلعة
الصينية أرخص ما في المتناول, وهو ما تحقق بالفعل إذ أدى غزو البضائع
الصينية للأسواق بالشركات الغربية الكبيرة إلى الشكوى من عدم قدرتها على
المنافسة وأصبح هناك توقع سائد بأن شروق الصين هو غروب للغرب.
كذلك
اعتمدت الصين على تغليب لغة المصلحة المتبادلة والاحترام والمساواة دون
التدخل في شؤون الآخرين مع تبني منطق مختلف عن السياسة المالية الغربية في
التعامل مع دول إفريقيا, يتجلى ذلك في القروض الميسرة والاستثمارات دون
شروط إضافة للمساعدات الجزيلة والتي عادة ما تكون في الغالب مساعدات عينية
ملموسة؛ فعادة يتم وضع هذه الأموال في حسابات مضمونة في بكين ثم يتم وضع
قائمة بمشاريع البنية التحتية المطلوبة، وتحصل الشركات الصينية علي عقود
لبنائها وهنا يتم تحويل الأموال إلى حسابات هذه الشركات, وهكذا تحصل في
النهاية إفريقيا على الطرق والموانئ (الملاعب, المساكن, الصالات,
المستشفيات, البنى التحتية... إلخ) وليس على النقدية التي قد تذهب إلى جيوب
المسؤولين الفاسدين وحساباتهم البنكية, في حين تحصل الصين على سمعة طيبة
وامتنان الشعوب الإفريقية لمجهوداتها الطيبة.
جاء
الترحيب الإفريقي بالشراكة الاقتصادية مع الصين نتيجة لبحث عن شريك
اقتصادي وسياسي يحترم لهم خصوصياتهم الثقافية والاجتماعية, بعد أن عاش
الأفارقة ردحًا من الزمن وهم يعانون خيبة أمل جرّاء الضربات الموجعة التي
تلقوها من الاستعمار الغربي الذي حرم بلادهم حتى بعد الاستقلال من شراكة
ثنائية، ومن استغلال لموارد قارتهم.
ما
كان من الصين إلا أن كانت قبلة ميمونة فرحت بها قلوب "المقهورين" نظرًا
لأوجه التشابه بين ثقافة الصينيين وثقافة الأفارقة؛ ففتحت لها ذراعيها حتى
غدت بعد حين أكبر شريك تجاري لإفريقيا. ولعل ذلك عائد في أساسه إلى الطفرة
الاقتصادية الصينية بتطوراتها المذهلة والتي تتقاطع في كثير من بداياتها مع
الكثير من الاقتصادات الإفريقية التي شهدت مؤخرًا نموًا باهرًا وصل في بعض
الحالات إلى معدل سنوي مرتفع (6% في نيجيريا), ولعل التشابه في البدايات
والمحن والصراع ضد المستعمر وعدم التخندق في جهة معينة (منظمة دول عدم
الانحياز) أفضى بالأفارقة إلى اعتبار الصين حليفًا استراتيجيًا وشريكًا
اقتصاديًا متقدمًا, يتمتع بمصداقية عالية وليست له أية نوازع أو تاريخ
استعماري مقيت.
الصين وجهة جديدة للقارة الإفريقية
تمتاز
العلاقات الصينية-الإفريقية بالاتساع والعمق, وهي قائمة أساسًا على قاعدة
المعاناة المتشابهة وأيام الشدة في الماضي, ولعل جذور هذه العلاقة ترجع في
العصر الحديث إلى الروابط المشتركة التي جمعت الصين مع الأفارقة,
فـ"الاهتمام الصيني بإفريقيا ليس بالأمر الجديد؛ ففي ستينات وسبعينات القرن
الماضي, تركز اهتمام بكين على بناء جسور التضامن العقائدي مع البلدان
النامية الأخرى لتعزيز الشيوعية الصينية, وعلى صد المد الاستعماري الغربي,
وفي أعقاب الحرب الباردة, تطورت الاهتمامات الصينية إلى مساع ذات صيغة
براغماتية كالتجارة والاستثمار والطاقة. وفي السنوات الأخيرة أخذت بكين
تنظر إلى القارة الإفريقية باعتبارها منطقة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية
كبيرة...". (1)
بدأ
كل شيء تقريبًا في آخر سبعينات القرن الماضي حين شرعت الصين في إصلاحاتها
الهيكلية في نظامها الاقتصادي واختارت أن تنفتح على العالم بشكل تدريجي
ومخطط, بحيث يَضْمَن هذا الانفتاح للصين الانتقال إلى مستوى اقتصادي متقدم
يكفل لها ترسيخ مكانتها الإقليمية والدولية ولعب أدوار مهمة في العالم,
ويحقق لمواطنيها نوعًا من العيش الكريم والرفاه المُرضي. وقد توجت تلك
الإصلاحات مؤخرًا بتصنيف الصين كثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد اقتصاد
الولايات المتحدة, وكأسرع اقتصاد كبير نامٍ والأسرع في الثلاثين سنة
الماضية وكأكبر دولة تجارية وأكبر مصدّر وثاني أكبر مستورد في العالم
وإدراجها ضمن الفئة المتوسطة الدنيا في العالم حسب نصيب الفرد من الناتج
المحلي البسيط وقدره 3180 دولارًا, وليس كل ذلك إلا نتيجة مباشرة لتلك
الإصلاحات المبهرة والخطوات الرائدة, التي جعلت العالم كله يعيش لحظات من
الإعجاب والتقدير للتجربة الصينية المتميزة.
ساهم
دخول الصين في نادي "الكبار" في خلق جو من التنافس والبحث عن الأسواق
المستوردة للمنتوجات والمصدِّرة للمواد الخام, بين الصين من جهة وبين
الأقطاب الاقتصادية التقليدية (أميركا والاتحاد الأوروبي) من جهة ثانية.
وقد برزت إفريقيا كوجهة أساسية لهذه الأقطاب الاقتصادية الكبيرة, لما تمتاز
به من ثروات ضخمة (من الطاقة والمعادن) وحاجة ماسّة لشريك اقتصادي يتفهم
الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية لهذه القارة. غير أن سياسة الصين
مع شركائها الاقتصاديين كانت كفيلة بتحويل ميزان التنافس الاقتصادي
لصالحها؛ إذ انتقل التبادل التجاري الصيني-الإفريقي من حدود مليار واحد من
الدولارات في حقبة السبعينات, ليرتفع مع مرور الوقت وليصل في عام 2013 إلى
ما يزيد على الـ200 مليار دولار, لتغدو صادرات إفريقيا إلى الصين ضعفي
الصادرات إلى الولايات المتحدة وأربعة أضعاف الصادرات الإفريقية إلى دول
الاتحاد الأوروبي.
قصة
العلاقات الصينية-الإفريقية, ليست وليدة اللحظة ولم تأت من فراغ؛ فالحضور
الصيني في إفريقيا بدأ من أيام الزمن الأولى وليست قصص الحرير الصيني في
أسواق مصر والمغرب إلا شواهد على أواصر تلك القربى. ولكن الاقتصاد أبى إلا
أن تكتب فصولها بقلم المصالح المتبادلة, لتعترف أروقة صناع القرار في الدول
الكبيرة أن الصين ببساطة تسرق إفريقيا من أحضان الغرب.
الرؤية الاقتصادية الصينية في إفريقيا
تنبني
الرؤية الاقتصادية الصينية أساسًا على مجموعة من العوامل المهمة والتي
يأتي في أولويتها ضمان التزود بالطاقة والمواد الخام التي تحرك عجلة
الاقتصاد الصيني ذي الاحتياجات الهائلة لموارد الطاقة (تُعتبر الصين ثاني
أكبر مستهلك للوقود في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية), دون أن
نغفل الرغبة العارمة لقطب اقتصادي رئيسي في النظام التجاري العالمي كالصين
في إيجاد موطئ قدم لها في قارة يكتسب جزء كبير من سكانها صفة المجتمع
الاستهلاكي, هذا بالإضافة إلى أن كسب الدول الإفريقية يحقق للصين دعمًا
وقوة سياسية في المحافل الدولية.
اتضح
للصينيين أن الأفارقة يمتازون عن غيرهم بضعف القدرة الشرائية بسبب انتشار
الفقر؛ لذلك اعتمدوا أساسًا في رؤيتهم التجارية والتسويقية على جعل السلعة
الصينية أرخص ما في المتناول, وهو ما تحقق بالفعل إذ أدى غزو البضائع
الصينية للأسواق بالشركات الغربية الكبيرة إلى الشكوى من عدم قدرتها على
المنافسة وأصبح هناك توقع سائد بأن شروق الصين هو غروب للغرب.
كذلك
اعتمدت الصين على تغليب لغة المصلحة المتبادلة والاحترام والمساواة دون
التدخل في شؤون الآخرين "العمل عمل, إننا نحاول فصل السياسة عن العمل" كما
قال زهو وينجونغ نائب وزير الخارجة الصيني، مع تبني منطق مختلف عن السياسة
المالية الغربية في التعامل مع دول إفريقيا, يتجلى ذلك في القروض الميسرة
والاستثمارات دون شروط إضافة للمساعدات الجزيلة والتي عادة ما تكون في
الغالب مساعدات عينية ملموسة؛ فعادة يتم وضع هذه الأموال في حسابات مضمونة
في بكين ثم يتم وضع قائمة بمشاريع البنية التحتية المطلوبة، وتحصل الشركات
الصينية علي عقود لبنائها وهنا يتم تحويل الأموال إلى حسابات هذه الشركات,
وهكذا تحصل في النهاية إفريقيا على الطرق والموانئ (الملاعب, المساكن,
الصالات, المستشفيات, البنى التحتية... إلخ) وليس على النقدية التي قد تذهب
إلى جيوب المسؤولين الفاسدين وحساباتهم البنكية, في حين تحصل الصين على
سمعة طيبة وامتنان الشعوب الإفريقية لمجهوداتها الطيبة.
تقوم
رؤية الصين الاقتصادية على أساس أن قضية الانفتاح على إفريقيا هي عقيدة
اقتصادية وسياسية واجتماعية، مثلما هي مصيرية أيضًا, ومتعلقة بالامتداد
الثقافي والتاريخي لكلا الطرفين؛ فالصين تسعى إلى تذليل كافة المصاعب
والمخاطر ومواجهة التحديات مع خلق الفرص من أجل تعميق الانفتاح والمزيد من
الإصلاح والنهوض بعوامل الإنتاج والاستغلال الأمثل لموارد الشريك الإفريقي.
كذلك فإن التجارة بين الطرفين تتيح للقارة السمراء الحصول على بضائع
متنوعة وبأسعار تنافسية في متناول الجميع, فضلاً عن توفير المزيد من
الاستثمارات التي تحتاجها لاقتصادها كما ستتاح لها الفرصة لتنويع علاقاتها
الاقتصادية مع العالم, وتحقيق أحلامها في النهضة الاقتصادية, خاصة وأن
المساعدات الصينية يتم منحها من دون ضغوط أو شروط سياسية.
في
إدارة وتأهيل المشاريع تمتاز الشركات الصينية عن غيرها بثلاثية: المال
والخبرة والعمال, على غير عادة الشركات الغربية التي كانت تأتي بالمال
والخبرة ولكنها غالبًا ما تستعين بالعمال من نفس البلدان المستقبلة
للاستثمار (تفرض أنغولا على الشركات الصينية أن يكون 30% من القوة البشرية
على الأقل في كل مشروع جديد من الأيدي العاملة المحلية). هذا التقليد
الصيني له مضاره الجسيمة وله منافعه المثمرة؛ فالقوة العاملة الصينية مدربة
تدريبًا جيدًا وتتمتع بإنتاجية عالية وهو ما يؤهلها للقيام بالأعمال على
أكمل وجه, ولكن هذا النوع من العمالة الوافدة إلى بلدان غالبًا ما تعاني من
نسب بطالة مرتفعة يشكّل عائقًا أمام القضاء على مشكل البطالة المتراكمة
لذلك غالبًا ما تواجَه هذه الشركات بامتعاض وغضب شديدين من طرف هذه الفئات
التي تعاني بين مطرقة البطالة وسندان العمالة الصينية ذات الكفاءة العالية
والتدريب الجيد.
وسائل الصين لتحقيق رؤيتها الاقتصادية في إفريقيا
كانت
الصين في بداية تغلغلها في القارة الإفريقية تعقد صفقاتها التجارية بمنطق
اقتصادي يقتضي شراء النفط والمواد الخام مقابل تطوير البنية التحتية, وذلك
لاختراق الاحتكار الاقتصادي الذي فرضته الدول الغربية على إفريقيا. كذلك
فإن عدم تدخل الصين في الشؤون الداخلية لأية دولة إفريقية وعرضها للقروض
والمنح والمساعدات دون اشتراطات لأية إصلاحات اقتصادية أو سياسية وقيامها
إلى جانب ذلك بمنح مظلة دبلوماسية لشركائها التجاريين الرئيسيين في القارة
الإفريقية, قد أكسبها مصداقية عالية وقبولاً لدى الأوساط الشعبية الإفريقية
التي تذكر للصين أنها لم تكن إمبراطورية استعمارية تعيش على نهب الثروات
وبيع البشر وتدمير البلدان الأخرى, على غرار الكثير من الدول الأوروبية
التي ساهمت في الماضي والحاضر في تخلف إفريقيا وضياعها.
في
12 أكتوبر /تشرين الأول 2000 بادرت الصين إلى إنشاء منتدي التعاون
الصيني-الإفريقي (FOCAC) لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بين الصين
والبلدان الإفريقية في القطاعين العمومي والخاص. وقد أصبح مؤخرًا يضم في
عضويته أكثر من 45 دولة إفريقية, وهو ما أسهم في ترسيخ التغلغل الصيني في
إفريقيا, ووضع العلاقات الاقتصادية الصينية-الإفريقية في مسار سريع؛ حيث
نمت التجارة الثنائية بين الصين وإفريقيا من 10.6 مليارات دولار في عام
2000 إلى 160 مليار دولار في عام 2011.
في
عام 2012 صادق المنتدى الخامس للتعاون الإفريقي الصيني في بكين على خطة
عمل للفترة ما بين 2013-2015 تقضي بحصول الدول الإفريقية على قروض مالية
ميسرة من الصين بـ20 مليارًا من الدولارات لتطوير البنى التحتية, الزراعية
والصناعية, وقد تقرر كذلك أن تساعد الصين الدول الإفريقية على تحقيق
التنمية الذاتية والتنمية المستدامة, إضافة إلى تدريب الصين لـ30 ألف كادر
من الدول الإفريقية في مختلف المجالات مع فتح الباب لتوفير 18 ألف منحة
دراسية للطلاب الأفارقة؛ حيث تبني الصين رؤيتها على أساس أن "الغزو
الثقافي" هو البديل المضمون ليرى الأفارقة الوجه الحقيقي للصين صاحبة
الحضارة العريقة وليست القوة الاقتصادية التي جاءت لاستنزاف موارد القارة؛
حيث بدأت بكين منذ 2009 مشروعًا ضخمًا للمنح الدراسية وصل بمقتضاه عدد
الطلبة الأفارقة في الجامعات الصينية لحوالي 12 ألف طالب يدرسون على نفقة
الصين.
من
أبرز الدول المستفيدة من التبادل التجاري الصيني-الإفريقي أنغولا الشريك
الإفريقي الأكبر للصين بحجم تجارة بلغ 17.66 مليارات دولار, تليها جنوب
إفريقيا 16.6 مليارات, والسودان 6.39 مليارات, ومصر 5.86 مليارات, ونيجيريا
6.37 مليارات. تستورد الصين من إفريقيا منتجات زراعية بنحو 2.33 مليارات
دولار, من بينها: القطن والبرتقال من مصر, والكاكاو من غانا, والبن من
أوغندا, والزيتون من تونس, والسمسم من إثيوبيا, والخمور من جنوب إفريقيا,
بالإضافة إلى الفوسفات والحديد والنحاس والبترول, خاصة من أنجولا والسودان
ونيجيريا, إضافة للجلود والرخام والنسيج والمعادن ومنتجات الأخشاب من بعض
الدول الإفريقية الأخرى.
أنشأت
الصين في إفريقيا 3300 كم من الطرق و30 مستشفى و50 مدرسة و100 محطة لتوليد
الطاقة في أكثر من 40 دولة إفريقية, ويقدر عدد الشركات الصينية أو فروعها
بأكثر من 2000 شركة (كان عددها 700 عام 2005)، كلها نشطة في مجال الزارعة
والتعدين والبناء والتعمير وقطاعي التجارة والاستثمار ومعالجة منتجات
الموارد، والتصنيع، والدعم اللوجستي التجاري. هذا، بالاضافة إلى العمال
والخبراء الصينيين وكذلك التجار والأطباء حيث أرسلت الصين ما يقارب 1600
طبيب إلى المناطق الريفية الإفريقية.
الاستثمارات الصينية في إفريقيا ومجالاتها
تستقبل
الدول الإفريقية الاستثمار الصيني بالترحيب، نظرًا لجاذبية النموذج
التنموي الصيني كون الصين حققت نجاحات كبيرة وسريعة ترغب الدول النامية في
نسخ تجربتها, وتمتلك الصين مخزونًا نقديًا ضخمًا يناهز 3 تريليونات دولار
(3000 مليار), هذه الموار المالية الهائلة موجهة في جزء كبير منها
للاستثمارات الصينية في الخارج, والتي تمتد في جميع المجالات طولاً وعرضًا,
في الطاقة والزارعة والتعدين والبناء، وقطاعي: التجارة والخدمات ومعالجة
منتجات الموارد، والتصنيع، والدعم اللوجستي التجاري. ويشرف على تلك العملية
(بنك الاستيراد والتصدير) هذه المؤسسة المصرفية التابعة للدولة والتي تلعب
دورًا أساسيًا في إعطاء القروض للحكومات الإفريقية، وهي التي تقترح منح
هذه القروض من خلال شروط تفضيلية. وبالموازاة مع ذلك يتم التفاوض على عقود
أشغال عمومية؛ حيث تتبوأ الطاقة والمعادن رأس الأولويات الاقتصادية
الصينية, لذلك تعتمد الصين في توسعها في مفاصل الاقتصاد في إفريقيا على عدة
شركات مملوكة للدولة؛ ففي مجال المواد الأولية والطاقة هناك شركة الصين
الوطنية للبترول وشركة الصين للمواد البترولية والكيميائية من بين شركات
أخرى، وهي تنفذ سياسة تزويد الصين بالطاقة من خلال استغلال الحقول
البترولية في إفريقيا بشروط ملائمة, لضمان تدفق الطاقة إلى محركات الاقتصاد
الصيني النشطة.
في
ربيع عام 2008 وقّعت الصين والكونغو اتفاقية اقتصادية في مجال التعدين
تحصل الصين بموجبها على 11 مليون طن من النحاس و620 ألف طن من الكوبالت
خلال الـ25 عامًا القادمة مقابل مد 3000 كم من السكك الحديدية ورصف 3200 كم
من الطرق، وبناء مئات العيادات والمستشفيات والمدارس وجامعتين.
ترتقي
العلاقات الصينية-الجزائرية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية, وتقدر
العمالة الصينية في الجزائر بنحو 30 ألفًا في مختلف المجالات (الطاقة,
البناء, التكنولوجيا, الري) موزعين على أكثر من 50 شركة صينية, لإدارة
حقيبة استثمارية تناهز المليارين من الدولار ومبادلات تجارية تقارب الـ8
مليارات (تعتبر مصر ثالث أكبر شريك اقتصادي للصين في إفريقيا ويبلغ حجم
الاستثمارات الصينية في السوق المصري حيث بلغ إجمالي الاستثمارات الصينية
في مصر 9.5 مليارات دولار تتركز في قطاعات المشروعات الصناعية والإنشائية
والخدمات). كذلك تسيطر الصين على نسبة لا يستهان بها من حقول النفط في
السودان حيث يبلغ إجمالي استثماراتها في ذلك المجال زهاء الـ4 مليارات, وفي
تشاد أنشأت شركة الصين الوطنية للنفط بالتعاون مع الدولة التشادية مصفاة
نفطية في يونيو/حزيران من عام 2011، ولمدة 99 عامًا ستستغل الشركة الصينية
المصفاة بواقع 60% للجانب الصيني 40% للجانب التشادي.
كذلك
تستثمر الصين أيضًا في العديد من الدول الإفريقية، من بينها: غينيا،
ونيجيريا (40 شركة صينية)، وأنغولا وإفريقيا الجنوبية، وذلك بفضل تنوع
الاستثمار الصيني مع تركيزه على الموارد الأساسية أو الثروات، كالنفط
والمعادن والتي يمكن أن تجعل من إفريقيا قارة مصدِّرة أكثر بكثير من اليوم
لهذه السلع الحيوية.
مستقبل التعاون الاقتصادي الصيني-الإفريقي: الحوافز والحواجز
في
إطار سعيها للمنفعة المتبادلة بين الصين وإفريقيا ساهمت الصين في تعزيز
قدرة إفريقيا في الاعتماد على الذات, وتطوير قطاعها الزراعي عن طريق
المساعدة في تشييد مراكز توضيحية للتقنية الزراعية, وتقوم بتنفيذ عمليات
تشييد للبنية التحتية تحت إطار القروض الميسرة دون فوائد ومقابل تسديد
تكلفة تلك المشاريع بتوريد المواد الخام إلى الصين, وتشجعها على تحسين
نظامها الجمركي ومرافق التفتيش الجمركي بل وصل الأمر إلى إلغاء التعرفة
الجمركية عن الصادرات الإفريقية إلى الصين.
بديهي
أن الصين ساهمت نسبيا في القضاء على الفقر في إفريقيا أكثر من غيرها من
المستثمرين, وأن الاستثمارات والمساعدات الصينية في مجالات التنمية ساعدت
على تنويع التنمية الاقتصادية في البلدان الإفريقية ووطدت الأساس للتنمية
الاقتصادية في القارة ورفعت من قدرتها على التنمية المستقلة وحسّنت من قدرة
الأفارقة جزئيًا على المنافسة في المجال الاقتصادي العالمي ودفعت بالشركات
الصينية إلى عولمة التنمية والاقتصاد المالي. بل قد تمددت الأنشطة
الاستثمارية في مجالات الزراعة والتعدين والبناء إلى المعالجة المكثفة
للقمامة والمخلفات والتصنيع والتمويل والعقارات.
غير
أن الصينيين يتعرضون إلى انتقادات كبيرة في سلوكهم الاستثماري الذي يتأثر
بالاعتبارات السياسية أكثر من الاقتصادية (في الكونغو قامت الصين ببناء
مئات الكيلومترات من الطرق السريعة في مدن ليس لها أهمية تُذكر غير أنها
مقر لبعض كبار الزعماء السياسيين), وللمباني الصينية قصة في أنغولا؛ حيث تم
تشييد مستشفى في لواندا عاصمة أنجولا، وتم افتتاحه وسط ضجة كبيرة ولكن بعد
بضعة أشهر ظهرت شروخ في الجدران وتم إغلاقه, وكذلك المناجم التي تديرها
شركات صينية في زامبيا لا يتمكن العمال من الحصول علي خوذات سلامة قبل أن
يمر عامان على عملهم في المنجم. هذا، بالإضافة إلى أن التهوية تحت الأرض
سيئة والحوادث القاتلة تقع بشكل شبه يومي، ومن أجل أن تهرب هذه الشركات من
تحمل المسؤولية تقوم بدفع رشوة إلى الاتحادات العمالية. كذلك من ملامح حرب
تكسير العظام ضد الصينيين في إفريقيا ما حصل منذ سنوات في الموزمبيق وجنوب
السودان وغينيا الاستوائية, حين قامت بعض الاحتجاجات ضد الشركات الصينية
بتهمة تلويث البيئة. بل وصل الأمر إلى "اختطاف المتمردين في جنوب السودان
لعمال صينيين في 2004. وفي إبريل/نيسان 2006 قامت حركة تحرير دلتا النيجر
المسلحة (مِند) في جنوب نيجيريا الغني بالنفط، بتفجير قنبلة احتجاجًا على
حصة صينية بمبلغ 2.2 مليار دولار في حقول نفطية بالمنطقة. وفي يوليو/تموز
2006، وقعت احتجاجات عنيفة وحالات موت في منجم نحاس يملكه صينيون في
تشامبيسي في زامبيا. وفي فبراير/شباط 2007 قام أحد المهاجمين بغارة على
مصنع لصناعة الحجارة في كينيا وقتل عاملاً صينيًّا. في إبريل /نيسان 2007،
قتلت الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين (أونلف) مهندسين إثيوبيين وصينيين في
حقل نفط تابع للشركة الصينية للصناعات البتروكيميائية في منطقة أوغادين.
وفي عام 2008 أخلت الصين 212 من مواطنيها من تشاد إلى الكاميرون بعد صدامات
مسلحة في العاصمة التشادية"(2). ومع ذلك تتحدث بعض التقارير والأبحاث عن
أن نظرة الناس في عشر دول إفريقية للصين إيجابية أكثر منها للولايات
المتحدة، وأن بعضهم يري أن إلقاء اللوم في مسألة انتهاك حقوق الإنسان
والفساد وتدمير البيئة في الدول الإفريقية يجب أن يُلقى على القادة
الأفارقة لا على الصين.
في
افتتاحيته للمؤتمر الوزاري الأخير للمنتدى الاقتصادي الصيني-الإفريقي
(2012 في بكين), قال الرئيس الصيني هيو جنتاو: "إن شجرة الصداقة
الصينية-الإفريقية التي غرسها الأجداد تحتاج إلى رعاية مستمرة من الأحفاد
جيلاً بعد جيل", وهذا دليل قاطع على أن الصين تدرج العلاقات الاقتصادية مع
إفريقيا على رأس أولوياتها وتنظر لها كفرصة لتطوير اقتصادها وتحريك عجلاته
العملاقة، مع سيادة منطق الإخلاص والصداقة والمساواة, وتغليب لغة المنافع
التبادلية والازدهار المشترك والدعم المتبادل والتنسيق الوثيق والتعاون مع
إفريقيا والأمم المتحدة والأنظمة التعددية والتعلم من بعضهم البعض، والحرص
على التنمية المشتركة، وفق مبدأ الصين الواحدة وإفريقيا المستقلة.
للتحميل pdf
______________________________
* الشيخ باي الحبيب، باحث موريتاني مهتم بالشأن الاقتصادي.
مركز الجزيرة للدراسات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق